يعتبر هذا النصب التذكاري أحد أشهر معالم لندن ، وقد سُميت باسمه محطة توقف محلية. لكن هذا التمجيد لأحد أكبر حرائق لندن كان له استخدام سري آخر كأحد أضخم الأدوات المعملية التي أُشيع باستخدامها من قبل روبرت هوك. يتألف النصب التذكاري لحريق لندن العظيم -المكان موضع القصة- من عمود حجري شاهق يبلغ طوله 61 مترًا، مزين بالتنانين وتعلوه قمة مدببة ذهبية على شكل جرم سماوي من لهب.
في الداخل، يمتد درج لولبي لافت للنظر على مسار الطريق إلى الأعلى، ملتوٍ مثل قشرة تفاحة منحوتة في شريط واحد متصل. وضع شاهد متصدع على واجهة النصب يبين أن مصمم المكان هو السير كريستوفر رين وهي معلومة غير صحيحة تمامًا. يبدو من المنطقي للغاية أن يُنقل النصب التذكاري المحبب لقلب العاصمة على يد المعماري الأشهر في كل بريطانيا، على كل، عُهد إلى رين بإعادة بناء العاصمة البريطانية لندن بعد الحريق الهائل الذي أتى على كل شبر في المدينة الجميلة.
لقد صمم 13200 منزل داخل أسوار المدينة والعديد من المباني العامة الاستثنائية وقلاعًا من ضفة النهر إلى وتنجتون لونج هاوس التي تُعد أكبر المراحيض العمومية في أوروبا آنذاك، حتى أنه بنى أيضًا كاتدرائية القديس باول القريبة. في الحقيقة، الذي صمم هذا النصب التذكاري هو صديقه المقرب، الذي لم يكن مهندسًا معماريًا على الإطلاق، بل كان عالمًا.
كان روبرت هوك رجلًا عاطفيًا، أعمل عقله الشغوف في مواضيع متنوعة مثل الكيمياء ورسم الخرائط. في وقته، كانت له مكانة شامخة كالنصب التذكاري فقد عُرف وقتها بـ (ليوناردو البريطاني) خصوصًا فيما عُرف بالميكانيكا حينها. يبدو أن اسمه قد صار منسيًا إلى حد كبير اليوم، لكن استمرت إسهاماته. فهو الذي صاغ كلمة «خلية» لوصف الوحدة الأساسية للحياة، ووضع قانون هوك للمواد المرنة -لا يمكن اعتباره إنجازًا خارقًا لكنه مفيد- واخترع أيضًا آليات ما تزال تستخدم في الساعات والكاميرات حتى يومنا هذا.
بعد الحريق، حاول هوك مد ساعده في الهندسة المعمارية عن طريق تصميم المستشفيات والمباني المدنية والكنائس في جميع أنحاء المدينة. لم يحصل على الكثير من الدعم؛ وذلك لأن براعة صديقه رين قد غطت على إبداعه في هذا الشأن، بالإضافة إلى أن تصميماته نفسها لم تكن جيدة بشكل كاف. من بين مشاريع هوك كان مستشفى بيثلم الملكي. في ذلك العصر كان العمل الخيري موضة شائعة، كان تصميم هذا المستشفى النفسي الجديد مناسبًا لزواره أكثر من مرضاه. فالتركيز على الجماليات كان مبالغًا فيه.
«قصر المجانين» هكذا أُشيع عنه للسخرية من تصميمه. ومن بين عيوبه الأخرى، الواجهة المزخرفة التي تسببت في تشقق المبنى بسبب وزنها الزائد، أما أهم كوارثه فكانت الحديقة ذات الجدار المنخفض الذي سمح بهروب المرضى. رغم روعة المبنى فلم يكن مناسبًا ليصبح مصحًا نفسيًا. لقد حُرّف اسم المستشفى إلى (بيدلام) ليصبح مرادفًا للفوضى في الإنجليزية إلى اليوم.
ثم جاء النصب التذكاري، الذي كان من المفترض أن يكون تذكيرًا كبيرًا بالنار. تقول ماريا زاك، عالمة الرياضيات في جامعة بوينت لوما نزارين بكاليفورنيا: «ما أراده هوك هو بناء تلسكوب طويل جدًا»، في النهاية، قرر الجمع بين العملين. يسبر أغوار هذا المكان رجل يُدعى ريتشارد سميث، ينتمي إلى العاصمة بلكنةٍ من شرق لندن ، ذو حماس بالغ لهذا العمود المُحيّر. دليل صغير فوق الأرض ثم درج طويل أسفله، مفتاح حل الأحجية مفصلتان من الحديد المطاوع.
في نهاية الدرج أسفل الأرض، نجد أنفسنا في غرفة ذات سقف بقُبّة. جدران طوب قديمة عارية ومتهدمة لها رائحة رطبة (مثل الملابس التي تُركت في الغسالة لفترة طويلة) لا يُسمح لزوار النصب بزيارة هذا الجزء، رغم أنه يبدو مثيرًا جدًا للفضول. هذه الغرفة فارغة الآن مع جهاز راوتر لاسلكي وبضعة حساسات. يقول سميث: «لقد حرصت الحكومة على ألا تفسد أي شيء من محتويات الغرفة حينما قررت فتحها من جديد قبل عامين». إذ إنها كانت تحفة فنية تستخدم كمعمل منذ عدة مئات من السنين.
في منتصف تلك الغرفة تمامًا -وبالنظر إلى أعلى- نجد كوة حديدية تسمح برؤية واضحة على مد البصر من خلال درج حلزوني يصل إلى أعلى نقطة في المبنى حيث تزينه الكرة الذهبية التي تشبه الشعلة، هناك، يوجد باب خفي آخر إذا فُتح سنحظى برؤية من أسفل نقطة في المبنى (قاعدته) إلى سماء الليل رأسًا. يمكن اعتبار التصميم الداخلي للمبنى كتلسكوب هائل.
قد يعتبر البعض أمرًا كهذا دربًا من الحماقة، لكن بالعودة إلى القرن السابع عشر لم يكن الناس يعتقدون في حقيقة دوران الأرض حول الشمس أو العكس، كان هوك مقتنعًا أن الأرض تدور حول الشمس لكنه مثل عقلاء هذا العصر لم يكن يملك دليلًا حاسمًا على ذلك. نظريًا، ومن خلال ظاهرة التحيز الفلكي astronomical parallax، يمكن رصد انحياز جسم ما فوق خلفية أخرى بالمقياس النجمي.
لتجربة ما يسمى بالتحيز، كل ما عليك القيام به هو إمساك إصبع وتحريكه أمام عين واحدة، ثم إغلاق تلك العين وفتح الأخرى. على الرغم من أن كل ما تغير هو منظور المشاهدة، سيظهر إصبعك يتحرك. تقول زاك: «إنه مفهوم نستوعبه جميعًا بشكل حدسي».
على مقياس أكبر، إذا غيرت الأرض موضعها بالنسبة للنجوم بينما تدور حول الشمس ستبدو كما لو كانت تقفز من مكان إلى آخر على مدار عام. لرصد هذه الحركة المحدودة خذ مثالًا بالنجم غاما التنين Gamma Draconis؛ وهو عبارة عن نجم برتقالي ضخم يبعد عنا حوالي 1.4 كوادرليون كم (وهو عدد يساوي مليون مليار)، يقسم الفلكيون السماء مثل وجه ساعة وهمي بدلًا من قياس حركة الأجسام في السماء بالأمتار أو البوصة -بما في ذلك الكواكب والأقمار الصناعية- كل ستة أشهر، يتحرك نجم الشمال أو الجنوب في السماء على نطاق يعادل حركة اليدين 22 في العشرة آلاف من الثانية.
لتكبير التحيز بما فيه الكفاية لرؤيته، تحتاج إلى تلسكوب ضخم للغاية. كانت فكرة هوك الأولى أن يضع التلسكوب في مبنى خاص به في كلية جريشام، حيث كان يعمل أستاذًا للهندسة. كان التلسكوب الذي بلغ 11 مترًا ضخمًا للغاية إذ احتاج إلى قطع بنية المبنى كي يعبر من طابقين خارجًا من السطح. بعد ذلك، اختار هوك نجمه الذي سيتتبعه وهو غاما التنين المرشح المثالي؛ لأنه مشرق نسبيًا ويمر مباشرة فوقنا. الآن، كان كل ما كان عليه فعله هو الانتظار ليمر في سمائنا، لقد كان مستعدًا لتغيير وجهة نظرنا عن الكون إلى الأبد.
لكن عملية الرصد هذه لم تنجح. اعتمدت القياسات على بطانة العدسات، لكن الهيكل لم يكن مستقرًا كفاية، فقد ثُبّتت في مكانها باستخدام تركيبة خشبية (مادة معروفة تتوسع بالحرارة ومرنة تحت وطأة الريح). لذا؛ فقد تحول إلى النصب التذكاري. هذه المرة، اعتقد أن الهيكل سيكون قويًا. وتطلبت خطته 798 مترًا مكعبًا من أرقى الأحجار البورتلاندية، وهو ما يقارب وزن 14 حوت أزرق. تقول زاك: «لم يكن هذا مجرد أنبوب ضيق ضعيف مثل التلسكوب الآخر».
استغرق البناء ست سنوات، في نهاية المطاف أصدر الملك إعلانًا لمنع أي شخص من نقل الصخور من جزيرة بورتلاند دون أخذ موافقة رين، الذي كان مسؤولًا رسميًا عن المشروع. كان هناك عدد قليل من العقبات الأخرى أثناء التشييد، مثل اقتراح أنه يجب أن يعتلي القمة تمثال للملك تشارلز الثاني. طبعًا كان هذا مستبعدًا لأن قمة النصب ستستخدم كتلسكوب.
لحسن الحظ، رفض الملك أن يكون له تمثال على رأس النصب لأنه يعتقد أن هذا قد يجعله يبدو وكأنه المسؤول عن الحريق. استكمل هوك طريقه وانتهى في 1677. في الأصل، مجرد وجود عدستين مجتمعين في أي من طرفيهما ومراقب واقف في المختبر، يمكن أخذ قياسات النجوم باستخدام العين المجردة. لعل الجميع اعتقد أن هوك أخيرًا سيحصل على مراده.
لكن حدثت كارثة. تقول زاك: «لقد كان يحاول إبقاء العدستين متوازيتين على مسافة 61 مترًا، مع وجود طرق محدودة لربطهما معًا إلى التلسكوب. لكن الأسوأ من ذلك أن النصب بجوار شارع هيل للأسماك الذي كان الطريق الرئيسي لجسر لندن في ذلك الوقت. كان هذا أحد أكثر الطرق ازدحامًا في لندن على بعد أمتار من تجربة علمية حساسة للغاية. في النهاية تسببت الاهتزازات المرورية في تدمير كل شيء.
لم يُكتشف التحيز حتى عام 1838، عندما لاحظ الفلكي الألماني فريدريش باسل حركة النجم 61 سيغني 61 Cygni. لم تنتهي قصة النصب التذكاري عند هذا الحد. ففي القرن السابع عشر، كانت المباني العالية نادرة. أطول مبنى في العالم كان كاتدرائية ستراسبورغ التي كانت أعلى من ضعف ارتفاع النصب بقليل. واضطر هوك لإجراء تجارب تتطلب ارتفاعًا من أعلى دير وستمنستر في لندن أو كاتدرائية القديس بولس.
كان لديه مختبره الخاص جدًا لتجاربه على أثر الارتفاع، وخاصةً على ضغط الهواء المحيط. في عام 1678 كتب مذكرات مشوشة. استخدم هوك مقياسًا لقياس مدى تغير الضغط أثناء سيره. كان قد صمم النصب بعناية فائقة -كل خطوة هي بالضبط 15.24 سنتيمتر طولًا- فاستطاع تتبّع التغيرات في الضغط بدقة. بين أسفل وأعلى الدرج، انخفض مستوى الزئبق بنحو 0.8 سنتيمتر، مؤكدًا أن ضغط الهواء ينخفض مع الارتفاع.
أخيرًا، نجحت تجربة داخل النصب التذكاري. من يهتم أن هوك اكتشف ذلك قبل الجميع بثلاثة عقود؟ حتى لو كان ذلك شيئًا بسيطًا على طريق المشي إلى قمة جبل.
اقرأ أيضًا:
تاريخ الفايكنغ.. حقائق وأساطير
معلومات عن البطلة الفرنسية التاريخية جان دارك
تاريخ الطب: الطب في عصور ما قبل التاريخ
أشهر علماء اللغة العربية في التاريخ
قصة إحدى أفظع الفضائح في تاريخ شركات الأدوية الكبرى
ترجمة: مصطفى العدوي
تدقيق: حسام التهامي