يبدو تاريخ الشركات الكبرى مثقلًا بقضايا صفقات مشبوهة أُجريَت لتعزيز هامش الربح على حساب المستهلك، كإخفاء شركات الوقود الأحفوري لأبحاث حول تبدّل المناخ الذي سببه البشر، وتواطؤ صناعة التبغ في تهريب منتجاتها الخاصة، وفضيحة مذكرة شركة فورد للسيارات حول صنفها «بينتو»، وصولًا إلى تسويق إحدى أهم الشركات الصيدلانية في العالم لمنتجات دموية ملوثة بفيروس نقص المناعة البشرية (HIV) –على دراية منها– لمرضى الهيموفيليا –الناعور-، ما أدى لوفاة العديد منهم بالإيدز AIDS لاحقًا.

يعتقد الخبراء بأن أصل فيروس الإيدز يعود لأدغال الكاميرون، حيث انتقل من القردة المصابة بفيروس نقص المناعة القردي (Simian Immunodeficiency Virus) أو اختصارًا (SIV) إلى البشر بتناولهم لحومها -وليس عن طريق الجنس، كما ادّعت بعض الإشاعات-.

خلال فترةٍ ما في أوائل القرن العشرين، انتشر ببطء في تلك المنطقة لعقود، متفشيًا للبلدان المجاورة ومصيبًا قليلًا من الزوّار الغرباء، دون أن يجذب الكثير من الانتباه حول العالم.



ولكن بدأ الحال بالتغير مع بدايات سبعينيات القرن ذاته، عندما ظهرت في المدن الكبيرة في الولايات المتحدة الأمريكية حالات إصابة بداء غريب وغامض، أتلف صحة مرضاه قبل أن تفتك عدوى ثانوية بهم، وبحلول عام 1981، كان قد تفشّى الإيدز كوباء حقيقي.

ولم تتوفر الكثير من المعلومات حول هذا الفيروس آنذاك، سوى أنه مرتبط بالنوادي الليلية، والمخدرات والجنس المثلي، ولكن بحلول عام 1982 تبيّن أنه ينتقل عبر دم المصاب، وأطلقت مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها (CDCs) في شهر يولو/ تمّوز من العام ذاته تقريرًا يؤكد بأن ثلاثة مرضى مصابين بالناعور قد التقطوا عدوى بهذا الفيروس.

علمًا أن الناعور اضطراب وراثي يفتقر فيه الدم للبروتينات الضرورية للتخثّر، وبدون المعالجة المناسبة قد يكون مميتًا، ويتطلب تدبيره نقلًا منتظمًا لمنتجات دموية للمرضى، كركازة عامل التخثّر الثامن، وهي ما أمنته شركة باير (Bayer) الشهيرة، أو بالأحرى قسم كاتر الحيوي (Cutter Biological) التابع لهذه الشركة.

إذ أنتج هذا القسم العامل الثامن ووزعه، واستخدم لصنعه كميات تصنيعية ضخمة من البلازما الدموية التي تبرّع بها ما يصل لـ10,000 شخص تقريبًا، ما يعني أن عددًا قليلًا من المتبرعين المصابين بفيروس نقص المناعة المكتسبة كان كافيًا لتلويث تلك الكميات بأكملها.

كما أدت الشركة لتفاقم الخطر بتجاهلها التشريعات الفدرالية الموضوعة تداركًا لأزمة الإيدز، وجمعها لعينات دم تبرّع بها أفراد مشبوهون كالسجناء، والرجال المثليين عاليي الخطورة، ومتعاطي المخدرات الوريدية.

نتيجة لذلك أُصيب آلاف من مرضى الناعور بما أشارت له صحيفة نيويورك تايمز على أنه «أحد أفظع الكوارث الطبية المتعلقة بالأدوية في التاريخ».



حذّرت مراكز مكافحة الأمراض والوقاية منها عام 1983 أن تلك المنتجات الدموية تبدو المسبب المسؤول عن إصابة مرضى الناعور بالإيدز، فبدأت الشركات المنافسة بتصنيع منتجات عولجت بالحرارة للقضاء بفعالية على فيروس الـ(HIV)، فلم يوجد له أثر فيها، ما جعلها آمنة للحقن، ومن ثم أصدر قسم كاتر نسخته الخاصة منها ردًا على ذلك، وبدأ توزيعها في شهر فبراير/ شباط عام 1984.

وبالطبع لم يكن ذلك ملائمًا اقتصاديًا لشركة باير، والتي بقيت مستودعاتها مليئة بعينات الدم غير المُعالَجة بالحرارة والتي من المُفترض التخلص منها، وبتقلّص سوقها في أوروبا والولايات المتحدة بسرعة، بحثت عن مناطق أبعد تصفي فيها بضاعتها.

فبينما كان يبيع قسم كاتر منتجات أكثر أمانًا في الغرب، شحن المخزون القديم غير المُعالَج بالحرارة لمناطق في آسيا وأمريكا اللاتينية، كهونغ كونغ، وتايوان، والأرجنتين وماليزيا، واستمر بذلك لأكثر من عام، متجاهلًا تعاظم الأدلة حول هذه المنتجات.

إلّا أن بعض هذه الوجهات أظهرت اهتمامًا بالمنتَج الجديد، فبالفعل استفسر أحد الموزعين في هونغ كونغ عام 1984 عن المنتج المُعالَج بالحرارة، لكن قابله رد كاتر بأن عليه «استهلاك المخزون» من المنتجات المشحونة أولًا قبل الانتقال للبديل «الأفضل والأكثر أمانًا».

وعندما أجرى الموزّع نفسه مكالمة طارئة لمكتب كاتر الرئيسي بعد ذلك مطالبًا بالمنتَج المُعالَج حراريًا وسط هلع عام من الإيدز، قيل له أن الكمية المتوفرة منه قليلة جدًا ومخصصة للمرضى «الأكثر أهمية» فقط.

لكن لم تتمكن كاتر من إطالة بيع منتجاتها غير الصالحة أكثر من ذلك، ففي عام 1985 صرّحت جهة رسمية بأن الأسواق في الشرق الأقصى قد توقفت عن بيع كميات كبيرة من المُنتج غير المُعالج حراريًا، وأشارت شركة باير إلى أن قسم كاتر أوقف جميع عمليات الشحن لهذا المُنتج بحلول يوليو/ تموز عام 1985.



وبعد عدة سنوات، صرّح متحدث رسمي باسم شركة باير لصحيفة نيويورك تايمز بأن قسم كاتر قد تصرف بشكل «مسؤول، وأخلاقي وإنساني» بتوزيعه المنتج غير المُعالج حراريًا خارج البلاد، إلّا أنهم ألقوا اللوم على نقص مصادر البلازما وتباطؤ الدول بالموافقة على المنتج الجديد، وهو ادعاء نفته الجهات الرسمية في تلك البلدان.

لم تكن اختبارات الإيدز متوفرة في ذاك الوقت، لذا من شبه المستحيل تقدير عدد مرضى الناعور في تلك الدول الأقل تقدمًا الذين التقطوا العدوى بفيروس (HIV) حينها، لكن تؤكد السجلّات إصابة ما لا يقل عن 100 منهم كنتيجة لاستخدام منتجات كاتر غير المُعالجة حراريًا في هونغ كونغ وتايوان لوحدهما، بينما ذكرت تقارير مجلة The Atlantic إصابة ما يقارب نصف مرضى الناعور في الولايات المتحدة الأمريكية آنذاك بهذا الفيروس جراء تلك الأدوية المؤلفة من البلازما.

توجد اليوم اختبارات وطرق تحليل من أجل التحري الفعّال عن فيروسات مثل نقص المناعة والتهاب الكبد C، لذا يعتُبر التلوث بها عبر نقل الدم نادرًا للغاية، كما أن الإصابة بـ(HIV) لم تعد بمثابة حكم بالإعدام كما كانت سابقًا، وذلك بفضل التطورات الطبية.


  • ترجمة: سارة وقاف
  • تدقيق: براءة ذويب
  • تحرير: صهيب الأغبري
  • المصدر