كم مرةً فكرت بإنشاء شركتك الخاصة، أو أخذ إجازة لمدة سنة تتفرغ فيها لكتابة روايتك، أو ترك علاقة عاطفية ليس فيها حب ، لكن انتهى بك الأمر بعدم فعل شيء حيال ذلك؟ قد تقع الملامة في ذلك على الخوف من الندم، الذي يعتبر دافعًا قويًا للحفاظ على حياتنا دون تغيير. أظهرت دراسة نفسية عصبية سلوكية أنَّ للندم تأثيرًا كبيرًا في حياتنا. يُعتبر المال والعلاقات أكثر شيئين يستنزفان موارد الشخص العقلية والعاطفية، ويؤثر الندم على سلوكنا في كليهما. فعندما يتعلق الأمر بالمال، هناك نزعة مشهورة مرتبطة بالندم تُدعى «disposition effect» تفسر تمسك المستثمرين بشدة بأصولهم التجارية. فسواء كانت هذه الأصول عبارة عن رأس مال مشترك، أو أسهم أو حتى عملة بيتكوين الرقمية، فنحن نمانع بيعها بخسارة، بل نتمسك بها رغم هبوط سعرها، على أمل أن تستعيد سعرها مجددًا بغض النظر عن قابلية ذلك للحدوث.
إن القوة الكامنة وراء سلوك كهذا هو خوفنا من الندم، والذي يجعلنا نتسمك بالوضع الراهن حتى وإن كان منطقنا وحدسنا يقولان عكس ذلك. فنحن غير مستعدين لبيع أصولنا التجارية بخسارة، لأننا بذلك نكون قد اعترفنا لأنفسنا بأننا قد ارتكبنا خطأً من الدرجة الأولى بشراء هذه الأصول، بينما محافظتنا عليها تجنبنا هذا الندم المحتمل.
مثال آخر على ذلك هو نزعة الكلفة الغارقةsunk cost bias-؛ فعندما نبدأ مشروعًا جديدًا بتوقعات عالية بنجاحه، وفي الوقت الذي نبذل فيه الكثير من الجهد من أجل هذا المشروع، فإنه لا يبدو أنه يبدي أي تطور. وعلى الرغم من أنه بإمكاننا الانسحاب بسهولة؛ نجد أنفسنا نتمسك به لفترة أطول باذلين في سبيله المزيد والمزيد من الجهد، وذلك رغم حديثنا ومنطقنا اللذين يقولان إن هذا المشروع لن يثمر ولن يؤتي أكله. هنا نشعر بندم إنهاء المشروع قبل أن ينضج، فنقع في فخ التمسك به بشكل لا عقلاني لتجنب هذا الندم المؤقت.
لهذه النزعة دور كبير في العلاقات العاطفية، فمثلًا، يتمسك الكثير من الناس بعلاقاتهم العاطفية التي يعرفون أنها ذاهبة نحو طريق مسدود. فتنجو علاقة عاطفية فاسدة ينقصها الحب والشغف لمجرد خوف الطرفين من إنهائها. فإنهاء هذه العلاقة يجبرنا على الاعتراف بالفشل والشعور بالندم. ولتجنب هذا الندم، نقنع أنفسنا بأن استمرار العلاقة إلى حد الآن يملي علينا أن نعطيها فرصة أخرى على الرغم من إدراكنا لعدم وجود أي أمل. ويبقينا نفس الخوف بعيدين عن أي علاقة عاطفية جديدة، فالخوف من الندم يجعل الوضع الراهن جذابًا كثيرًا حتى لو لم يكن يشعرنا بالسعادة على المدى الطويل.
لكن، لماذا يسهل التلاعب بنا؟
إنّ الندم عاطفة مهمة زودنا بها التطور ليسهل تعلمنا. فدون الشعور بالندم لن نتعلم من أخطائنا، ونحن بحاجة لهذا المنبه المؤلم حتى لا نعيد أخطاءنا مرارًا وتكرارًا. لكن الطريقة التي يتعامل فيها دماغنا مع الندم معاكسة للتوقعات البديهية، ففوات الباص بسبب تأخرنا لدقيقة واحدة يحرض الندم أكثر من فواته لتأخرنا عشر دقائق (بغض النظر عن الوقت المتوقع لقدوم الباص التالي).
وبالمثل، فإن قرار الابتعاد عن الوضع الراهن الذي ثبت لاحقًا أنه غير صحيح، يؤدي إلى ندم أكبر من اتخاذ قرار غير حكيم بالبقاء ضمن هذا الوضع الراهن. يبدو أن اتخاذ قرار بتغيير شيء ما يخلق انطباعًا خاطئًا بأن القرار غير مؤهل لظروف مخففة؛ ما يجعل العقاب الذي نلزمه لأنفسنا من خلال الندم أكثر قسوة. ساعدت دراسات تصوير الدماغ الحديثة على تحديد الدارات العصبية المسؤولة عن الشعور بالندم، فقد تبيّن أنها تقع في منطقة الحصين hippocampusالمسؤولة عن الذاكرة.
وبينت أيضًا أن للشعور بالندم والشعور بالخوف من الندم دارات عصبية متماثلة؛ ما يشير إلى أن الخوف من الندم هو عمليًا نفس الشعور بالندم. وهذا يفسّر كون الخوف من الندم قويًا ومؤلمًا.
لا يتأثر جميع الناس بالندم بنفس الدرجة، فالذين يعانون من درجات عالية من العصبية يكونون أكثر عرضة للشعور بالندم من غيرهم. هذا يعني أن الميل للشعور بالندم مرتبط بالإحساس بالغضب والخوف والوحدة وكره الخسارة؛ والذي يعرف بأنه التركيز على ما نخسره أكثر من التركيز على ما نكسبه، ما يجعل الناس خائري القوى أقل احتمالًا للمجازفة.
فكيف يمكننا التغلب على خوفنا من الندم والمضي قدمًا في حياتنا؟
في البداية، من المهم إدراك مقدار تأثير الندم علينا، فإن أدركنا أن دماغنا يخدعنا سيصبح تغلبنا عليه أسهل، لذا فإن وجدت نفسك تفشل دائمًا في تحقيق أهدافك اسأل نفسك ما إذا كان السبب هو خوفك من الندم. فإن كان الندم هو السبب خذ دائمًا بعين الاعتبار أن المخاطرة الأكبر هي عدم القيام بأي شيء. وبعكس القلق الذي ينعكس على المستقبل، فإن الندم ينعكس على الماضي، وعلى الرغم من أنه يسمح لنا بالتعلم من أخطائنا، فلن يجعلنا نعود بالزمن ونغير ما قمنا به. وأفضل علاج هنا هو تلقي النصيحة من الآخرين.
قد يبدو الخيار الأكثر راحة هو ألا نقوم بشيء، لكن ذلك قد يدفعنا لتفويت أمور هامة في الحياة، فعدم قيامنا بشيء هو في الحقيقة الخيار الأكثر بُؤسًا على المدى الطويل وليس الأكثر راحة. ولماذا كل هذا؟ فقط لتجنب إحساس مزعج مؤقت هو الإحساس بالندم.
اقرأ أيضًا:
- لماذا يَشحُب لون وجهك عندما تشعر بالخوف؟
- هل اكتَشف العُلماء المنطقة المسئولة عن تثبيط الخوف في الدماغ؟
- الخوف من الأفاعي والعناكب، فطري أم مكتسب؟
- أين يعيش القلق والخوف في دماغنا؟
ترجمة: عبد المنعم نقشو
تدقيق: محمد وائل القسنطيني