تُوفر طريقة التأريخ بالكربون تقديرًا زمنيًا موضوعيًا للمواد التي يدخل في تركيبها الكربون وتنتج عن المواد الحية. يُقدر عمر المادة من خلال قياس كمية الكربون 14 الموجودة في العينة ومقارنتها مع مقياس مرجعي عالمي. تأثير تقنية التأريخ بالكربون على الإنسان المعاصر جعل منها إحدى أفضل اكتشافات القرن العشرين. لم تستطع أية طريقة إحداث ثورة في فهم الإنسان؛ ليس لحاضره فقط بل لأحداث حصلت منذ آلاف السنين. يستخدم علم الأحافير وبعض العلوم الإنسانية الأخرى التأريخ بالكربون المشع لإثبات أو دحض النظريات. اُستخدِم الكربون 14 على مر السنين في الجيولوجيا، والهيدرولوجيا (علم المائيات)، والجيوفيزياء، والعلوم المناخية، وعلم المحيطات وعلم المناخ القديم وصولًا إلى الطب الحيوي.
المبادئ الأساسية للتأريخ بالكربون:
الكربون المشع أو الكربون 14 هو نظير مُشع للكربون، ويُعد نظيرًا غير مستقر وضعيف التفاعل. النظائر المستقرة للكربون هي الكربون 12 والكربون 13. يتشكل الكربون 14 بشكل مستمر في الغلاف الجوي العلوي من خلال تأثير الأشعة الكونية على ذرات النيتروجين 14، يتأكسد الكربون 14 بسرعة في الجو ليُشكل ثاني أكسيد الكربون ويدخل دورة الكربون الأرضية.
تهضم النباتات والحيوانات الكربون 14 من ثاني أوكسيد الكربون خلال دورة حياتها، وعندما تموت النباتات والحيوانات يتوقف تبادل الكربون مع المحيط الخارجي وتبدأ كمية الكربون 14 داخلها بالانخفاض بنسبة تُحدَد بقانون التحلل الإشعاعي.
يُعتبر التأريخ بالكربون المشع طريقةً مصممةً لقياس النشاط الإشعاعي المتبقي. يُعرف عمر الخلية بعد موتها من خلال معرفة كمية الكربون 14 المتبقية في العينة. يجدر الإشارة إلى أن نتائج التأريخ بالكربون المشع تشير إلى الوقت الذي كانت فيه المادة حيةً وليس وقت استخدام المادة.
قياس الكربون الإشعاعي:
تُستخدَم ثلاث تقنيات مبدئية لقياس محتوى الكربون 14 في العينة، وهي: تعداد الغاز التناسبي وعداد الوميض للسوائل ومقياس طيف الكتلة التسارعي.
تقيس تقنية تعداد الغاز التناسبي -وهي تقنية تأريخ إشعاعي تقليدية- عدد جسيمات بيتا التي تُصدرها العينة المُعطاة؛ جسيمات بيتا تنتج من تحلل الكربون المشع. تُحوَل عينة الكربون -في هذه الطريقة- إلى غاز ثاني أوكسيد الكربون قبل القياس بطريقة تعداد الغاز التناسبي.
كانت طريقة التأريخ بالكربون المشع باستخدام عداد الوميض للسوائل شائعةً في ستينيات القرن الماضي. تكون العينة في هذه الطريقة سائلةً ويُضاف المومض بعد ذلك. ينتج المومض قبسًا من الضوء عندما يتفاعل مع جسيمات بيتا. تُمرَر قارورة العداد بين مضاعفين ضوئيين -المضاعف الضوئي هو أداة قياس تحتوي خليةً كهروضوئيةً تُستخدَم لالتقاط أية إشارة ضوئية وتضخميها- وفقط عندما تلتقط المضاعفات القبس الضوئي يسجل العداد النتيجة.
مقياس طيف الكتلة التسارعي هو طريقة حديثة للتأريخ بالكربون وتُعد الطريقة الأكثر نجاحًا لقياس محتوى الكربون المشع في العينة. تُقاس كمية الكربون المشع -بهذه الطريقة- مباشرةً بمناسبتها مع الكربون 12 والكربون 13 الحالية. لا تعير الطريقة اهتمامًا لجسيمات بيتا بل تقيس عدد ذرات الكربون الموجودة في العينة ونسبة النظائر.
المواد البيانية للكربون 14:
لا يمكن تأريخ عمر كل المواد بالكربون، إنما يمكن تأريخ عمر معظم -إن لم يكن كل- المواد العضوية بالكربون المشع. يمكن تأريخ بعض المواد غير العضوية مثل معدن الأراجونيت طالما كان المعدن يضمن امتصاص الكربون 14 في حالة توازن مع الغلاف الجوي.
تشمل العينات -التي أُرخَت بالكربون المشع منذ بدء استخدام التقنية- الفحم والخشب والأغصان والبذور والعظام والأصداف والجلود والخث (نبات متفحم) وطين البحيرات والتربة والشعر والفخار وحبوب اللقاح واللوحات الجدارية والشعاب المرجانية وبقايا الدم والأقمشة والورق أو البرشمان والراتنجات والمياه وغيرها. تُعالج هذه المواد فيزيائيًا وكيميائيًا لإزالة الملوثات المحتملة قبل تحليل محتوى الكربون المشع فيها.
معايير التأريخ بالكربون:
يمكن تحديد عمر الكربون المشع في عينة ما لا يُعرف عمرها من خلال قياس محتوى الكربون 14 ومقارنته بنتائج نشاط الكربون 14 في عينات حديثة. كان المعيار الرئيسي الذي تستخدمه مختبرات التأريخ بالكربون هو حمض الأكساليك 1 الذي يُحصَل عليه من المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا في ولاية ماريلاند. أُخذ حمض الأكساليك من محصول للشمندر السكري عام 1955.
حوالي 95% من نشاط الكربون المشع في حمض الأكساليك يساوي نشاط الكربون المشع المقاس في المعيار المطلق للكربون المشع؛ الذي هو خشبة اكتُشفَت في عام 1890 لم تتأثر بتأثيرات الوقود الأحفوري.
عندما اُستهلِك مخزون حمض الأكساليك 1 بالكامل تقريبًا، صُنِع معيار جديد باستخدام محصول عام 1977 لدبس الشمندر الفرنسي. أثبت المعيار الجديد -حمض الأكساليك 2- أن فيه اختلافًا صغيرًا مع حمض الأكساليك 1 من ناحية محتوى الكربون المشع. صُنِعت معايير أخرى للكربون المشع على مدى السنين.
يُحدَد نشاط الكربون المشع في الخلفية من خلال إزالة مشاركته من النتائج المُحصلة خلال تحليل العينة. يُقاس نشاط الكربون المشع، وتُخصم النتائج المُحصلة من نتائج تأريخ الكربون للعينة. عادةً ما يكون تحليل عينات الخلفية بمقارنتها مع العمر اللانهائي للفحم واللينغيت (الفحم الأسمر) والحجر الجيري.
قياسات التأريخ بالكربون 14:
يُطلق على التأريخ بالكربون المشع اسم عمر الكربون المشع التقليدي (CRA). تتضمن اتفاقيات عمر الكربون المشع ما يلي:
1- استخدام عمر ليبي النصفي (طريقة لقياس تحلل الكربون المشع).
2- استخدام حمض الأكساليك 1 أو حمض الأكساليك 2 أو أي معيار ثانوي مناسب كمعيار حديث للكربون المشع.
3- تصحيح تجزئة النظائر البسيطة إلى قيمة طبيعية ومرجعية تعادل -25,0 لكل ميللي منسوبةً إلى نسبة (الكربون 12 مقسومةً على الكربون 13) في معايير الكربون؛ وهي تكوين البليمنت الطباشيري في منطقة بيدي في ولاية كارولاينا الجنوبية.
4- انطلاق التأريخ هو عام 1950.
5- افتراض أن نسبة الكربون المشع ثابتة.
تُسجل الأخطاء المعيارية -هامش الخطأ (- أو +)- في نتائج التأريخ بالكربون المشع، وتُشتق هذه القيم من خلال الوسائل الإحصائية.
رائد التأريخ بالكربون المشع:
قاد عالم الفيزياء الكيميائية ويلارد ليبي فريقًا من العلماء في الفترة التي تلت الحرب العالمية الثانية لتطوير طريقة لقياس نشاط الكربون الإشعاعي. يُعتبر ليبي أول عالم اقترح أن نظائر الكربون غير المستقرة المعروفة باسم الكربون المشع أو الكربون 14 توجد في المادة الحية.
تمكن ليبي وفريقه من العلماء من نشر ورقة بحثية تلخص أول رصد للكربون المشع في عينة لخلية عضوية. كان ليبي أول من يقيس نسبة نشاط الكربون المشع ويحدد عمرها النصفي بـ 5568 عامًا مع هامش خطأ 30 سنةً. قُلد ليبي جائزة نوبل في الكيمياء عام 1960 اعترافًا بجهوده لتطوير التأريخ بالكربون المشع.
اقرأ أيضًا:
من اكتشف العالم الجديد؟ كولومبوس أم الفايكينغ!
حضارة المايا أكثر تعقيدًا مما اعتقدنا
ترجمة: مازن سفّان
تدقيق: أحلام مرشد