تحول جهاز عد الإلكترونات العملاق، بشكل غير مباشر، إلى مقياس لأدق الجسيمات الفيزيائية المعروفة، وأضاف دليلًا جديدًا على وجود المادة المظلمة dark matter. هذا القياس هو النتيجة الأولى لجهود عالمية لتقدير كتلة جسيمات النيوترينو neutrinos، تلك الجسيمات التي تملأ كوننا وتحدد بنيته، والتي بالكاد يمكننا كشفها. وفقًا لتجربة التريتيوم- لنيوترينو في معهد كارلسروه الألماني German-based Karlsruhe Tritium Neutrino experiment اختصارًا: كاترين (KATRIN).
لا تتعدى كتلة النيوترينو %0.0002 من كتلة الإلكترون. وهو رقم ضئيل جدًا، حتى إذا قمنا بحصر كل النيوترينوات في الكون، فلن يفسر ذلك مشكلة الكتلة المفقودة missing mass. تُعتبَر حقيقة كهذه أحد الأدلة التي تؤيد وجود المادة المظلمة.
مشكلة الكتلة المفقودة: هي وجود فرق بين كتل الأجسام الفلكية التي تشير إليها آثار الجاذبية الخاصة بها، وبين الكتلة المحتسبة من المادة التي تحويها هذه الأجسام فعليًا، مثل النجوم والغاز والغبار.
كاترين في الأساس جهاز ضخم لعد الإلكترونات فائقة الطاقة التي تنطلق من عينة التريتيوم tritium-الهيدروجين المشع، والذي يتكون من بروتون ونيوترونين في كل ذرة-. التريتيوم غير مستقر وتتحلل نيوتروناته إلى أزواج تتكون من إلكترون ونيوترينو electron-neutrino pairs.
يبحث كاترين عن الإلكترونات وليس النيوترينوات، لأن النيوترينوات دقيقة للغاية ولا يمكن قياسها بدقة. وفقًا لهاميش روبرتسون Hamish Robertson عالم كاترين وبروفيسور متقاعد في جامعة واشنطن، فإن استخدام غاز التريتيوم يرجع لكونه المصدر الوحيد الذي يمكننا من الحصول على أزواج كافية من الإلكترون- نيوترينو لتحقيق قياس دقيق للكتلة.
يكاد يكون قياس كتلة النيوترينوات مباشرةً أمرًا مستحيلًا، لأنها صغيرة الكتلة جدًا، وتعبر أجهزة القياس دون أن تتفاعل معها. وفقًا للشرح الذي أدلى به روبيرتسون لموقع لايف ساينس Live Science، فتُحسب كتلة النيوترينو عن طريق حساب أعلى الإلكترونات طاقة، ثم -اعتمادًا على الرقم الناتج- تُحسب كتلة النيوترينو عكسيًا، ووفقًا للنتائج الأولية لكاترين، فإن كتلة النيوترينو لا تتعدى 1.1 إلكترون فولت (electron volts (eV.
الإلكترون فولت هو وحدة قياس الكتلة والطاقة التي يستخدمها الفيزيائيون لقياس أصغر الجسيمات في الكون. (في مقياس الجسيمات الأساسية fundamental particles، يُقاس كل من الكتلة والطاقة باستخدام نفس الوحدات، ويجب أن تتوافق مستويات طاقة أزواج الإلكترون- نيوترينو مع طاقة النيوترونات التي صدرت عنها).
للمقارنة، جسيم هيجز بوزون Higgs boson، وهو الذي يعطي الجسيمات الأخرى كتلتها، تبلغ كتلته نحو 125 مليار إلكترون فولت، أما البروتون وهو الجسيم الموجود في مركز الذرة فكتلته نحو 938 مليون إلكترون فولت، بينما تبلغ كتلة الإلكترون نحو 510 ألف إلكترون فولت فقط، ما يؤكد حقيقة أن كتلة النيوترينوات صغيرة بصورة استثنائية.
وفقًا لشرح روبرتسون، فإن كاترين جهاز ضخم جدًا، لكن أسلوب عمله بسيط للغاية: تمتلئ الغرفة الأولى من الجهاز بغاز التريتيوم، والذي تتفكك نيوتروناته تلقائيًا إلى إلكترونات ونيوترينوات، يعلم الفيزيائيون مسبقًا مقدار الطاقة التي يتضمنها تحلل النيوترون.
تتحول بعض الطاقة لكتلة نيوترينو وكتلة إلكترون، ويُضاف الباقي إلى تلك الجسيمات المتكونة حديثًا، وهو ما يحدد تقريبًا سرعة تحركها. توزع هذه الطاقة الزائدة عادةً بالتساوي تقريبًا بين الإلكترون والنيوترينو، ولكن في بعض الأحيان تُفرغ معظم أو كل الطاقة المتبقية إلى أحدهم دون الآخر.
في هذه الحالة، تُفرَغ كل الطاقة المتبقية بعد تكون الإلكترون والنيوترينو إلى قرين الإلكترون، مكونةً إلكترون فائق الطاقة، أي يمكن احتساب كتلة النيوترينو بكونها الطاقة المشمولة في تحلل النيوترون، تُطرح منها كتلة الإلكترون، ومستوى الطاقة الأقصى للإلكترونات في التجربة.
لم يحاول الفيزيائيون الذين أجروا التجربة قياس النيوترينوات، فهي تهرب من الجهاز بمجرد لمسها. بدلًا من ذلك، يقوم الجهاز بدفع الإلكترونات إلى داخل غرفة عملاقة من الفراغ، تسمى المطياف spectrometer، وينتج عن التيار الكهربائي مجال مغناطيسي قوي جدًا لا يسمح إلا بمرور الإلكترونات عالية الطاقة.
وفي الطرف الآخر من الغرفة يوجد جهاز لحساب عدد الإلكترونات التي عبرت خلال ذلك المجال، وبينما تزيد كاترين ببطء من قوة المجال المغناطيسي، يقل عدد الإلكترونات التي تمر من خلال المجال، وتبدأ في التقلص والانكماش، كما لو أنها تتلاشى على طول الطريق إلى أن تصل إلى الصفر، ولكن في نهاية هذا الطيف من مستويات طاقة الإلكترون، يحدث شيء ما.
يتلاشى الطيف فجأةً، قبل أن يصل إلى نقطة النهاية (إذ يحصل الإلكترون على كل الطاقة الناتجة عن تحلل التريتيوم)، وبما أن الإلكترون غير قادر على الحصول على كتلة النيوترينو، تبقى هذه الكتلة في النهاية، وهي كتلة النيوترينو، الأقل من كمية الطاقة الضئيلة المفقودة في نهاية الطيف. وبعد عدة أسابيع من المحاولات، نجح القائمون على التجربة في تقليص هذا الرقم إلى نحو نصف القيمة التي عرفها الفيزيائيون من قبل.
إن فكرة وجود كتلة للنيوترينو هي فكرة ثورية بالفعل. يشير روبرتسون إلى أن النموذج المعياري the Standard Model لفيزياء الجسيمات، وهي النظرية الأساسية التي تصف العالم دون الذري، قد أقرت فيما مضى أن النيوترينوات لا تمتلك أي كتلة على الأطلاق.
في ثمانينيات القرن الماضي، حاول الباحثون الروس والأمريكيون قياس كتلة النيوترينو، لكنهم لم يحصلوا على نتائج دقيقة. في وقت ما، ظن الباحثون الروس أنهم قد وجدوا كتلة النويترينو، وهي -وفقًا لحساباتهم- 30 إلكترون فولت، وهو رقم مقبول حقًا إذا اعتبرنا النيوترينوات بمثابة الرابط المفقود الذي يفسر الجاذبية الهائلة في الكون، ويفسر حساب الكتلة المفقودة بالكامل، ولكن تبين خطؤهم فيما بعد.
بدأ روبرتسون وزملاؤه العمل باستخدام غاز التريتيوم، بعد أن أدركوا أن المادة المشعة خافتة الإشعاع تمثل أدق المصادر المتاحة لتحلل النيوترون.
يقول روبرتسون: «لقد كان بحثًا طويلًا. كان القياس الروسي -الخاطئ- مثيرًا للاهتمام حقًا، إذ أنه يعني أن الكون محدود بسبب الجاذبية. يلعب النيوترينو دورًا كبيرًا في علم الكونيات، وربما قد لعب دورًا في صياغة البنية واسعة النطاق للكون».
كل هذه الجسيمات الضئيلة التي تحوم حول الأجسام الأخرى متأثرةً بجاذبيتها، وتتبادل الطاقة مع كل المواد الأخرى، هي جسيمات ضئيلة الكتلة جدًا، إلا أن الدور الدقيق الذي تلعبه معقد للغاية.
بالنسبة للرقم 1.1 إلكترون فولت، فهو مثير للاهتمام لأنه أول قيمة مُقاسة تجريبيًا لكتلة النيوترينو، وهو ليس مرتفعًا بما يكفي لشرح بنية الكون المتبقية لوحده.
يقول ربرتسون: «توجد مادة لا تشبه أي شئ عرفناه من قبل، إنها المادة المظلمة»، والتي لا يمكن أن تكون مصنوعة من النيوترينوات كما نعرفها.
يمثل هذا الرقم الضئيل الذي حصلنا عليه من غرفة الفراغ الكبيرة في ألمانيا، دليلًا جديدًا على أن الكون ما زال يحتوي على عناصر لم نفهمها بعد.
اقرأ أيضًا:
هل يشرح سلوك النيوترينو الشاذ أحجية وجود الكون ؟
ترجمة: آية قاسم
تدقيق: أكرم محيي الدين
مراجعة: آية فحماوي