النيوترينو – Neutrinos: جسيم أولي بكتلة أصغر كثيرًا من كتلة الإلكترون ، وليست له شحنة كهربية . يستمتع العلماء بحل الأحجيات، وكلما زادت درجة غموضها زاد الحماس في كشف حقيقتها. هناك الكثير من الأسئلة التي تبدو بلا إجابة في مجال العلوم، وكلما زادت ضخامة السؤال أصبح من الصعب اكتشاف الإجابة، مثل: «لماذا يوجد شيء ما، عوضًا عن: لماذا لا يوجد أي شيء على الإطلاق؟». قد يبدو هذا السؤال فلسفيًا، لكنه سؤال قابل للتحقق العلمي إذا أعيدت صياغته بشكل أكثر دقة: «لماذا الكون مصنوع من أنواع من المادة والتي تسمح بوجود الحياة البشرية –بالشكل الذي يجعلنا نطرح هذا السؤال الآن؟» أعلن علماء يجرون أبحاثًا في اليابان عن قياس يتناول بشكل مباشر هذا التساؤل المثير، إذ تبدو قياساتهم لا تتفق مع أبسط توقعات النظرية الحالية ما قد يُلَمِّح بشكل مباشر لإجابة هذا السؤال الخالد. تشير قياساتهم أنه بالنسبة لمجموعة معينة من الجسيمات دون الذرية، تعمل المادة والمادة المضادة بطريقة مختلفة.

الكون النيوترينو الميون الجسيمات المادة المضادة

الكون النيوترينو

المادة في مواجهة المادة المضادة

باستخدام مسرع الجسيمات في مجمع البحوث الياباني J-PARC accelerator، الموجود في توكاي باليابان، أطلق العلماء حزمة من الجسيمات دون الذرية الشبحية تدعى النيوترينو ونظائرها المضادة (النيوترينو المضاد – antineutrinos) عبر الأرض من خلال (تجربة سوبر كاميوكاندي -Super Kamiokande experiment)**. صُمّمت هذه التجربة، المسماة (T2K) (Tokai to Kamiokande)، لتحديد سبب خلق الكون من المادة. إن السلوك الغريب الذي أبدته النيوترينوات، والذي يطلق عليه تذبذب النيوترينو، قد يلقي بعض الضوء على هذه المشكلة المزعجة للغاية.

**تجربة سوبر كاميوكاندي: الاسم بالكامل تجارب سوبر كاميوكا لتحلل النوكليونات أو مرصد عداد النيوترينو. وهي تجربة مبنية تحت الأرض في منجم كاميوكا باليابان بالقرب من مدينة هيدا.

بُنِيَ هذا المرصد لأبحاث تحلّل البروتون ودراسة النيوترينو الشمسي والنيوترينو الناشئ في جو الأرض، بالإضافة إلى مراقبة أي مستعر أعظم في المجرة. إن طرح التساؤل عن سبب أن الكون مصنوع من المادة قد يبدو غريبًا، ولكن هناك سببًا جيدًا يدعو العلماء إلى هذه الدهشة. لأنه، بالإضافة إلى معرفة وجود المادة، يعرف العلماء المادة المضادة أيضًا.

في عام 1928، اقترح الفيزيائي البريطاني بول ديراك وجود المادة المضاد وهي توأم للمادة لكنها عدوّة لها إن صح التعبير. الجمع بين كميات متساوية من المادة والمادة المضادة يمحي كليهما، ويؤدي إلى إطلاق كمية هائلة من الطاقة. ولأن مبادئ الفيزياء تعمل بمنطق أن عكس القاعدة صحيح، فإذا كان لديك كمية هائلة من الطاقة، يمكن أن تتحول إلى كميات متساوية بالضبط من المادة والمادة المضادة.

اكتُشفت المادة المضادة في عام 1932 من قبل الأمريكي كارل أندرسون Carl Anderson وكان لدى الباحثين ما يقرب من قرن لدراسة خصائصها. ومع ذلك، فإن العبارة «كميات متساوية بالضبط» هي جوهر اللغز. في لحظات وجيزة بعد الانفجار العظيم مباشرة، كان الكون مليئًا بالطاقة. ومع تمددها وتبريدها، يجب أن تكون الطاقة قد تحولت إلى أجزاء متساوية من الجسيمات دون الذرية من المادة والمادة المضادة معًا، والتي بحسب الفرضية يمكن رصدها اليوم. ومع ذلك، فإن بنية كوننا الأساسية هي من المادة. فكيف يمكن أن يحدث ذلك؟

من خلال حساب عدد الذرات في الكون ومقارنتها مع كمية الطاقة التي نراها، قدر العلماء أن لفظ «متساوية بالضبط» ليست صحيحة تمامًا. بشكل ما، عندما كان عمر الكون حوالي عُشْر من تريليون من الثانية، كانت قوانين الطبيعة تنحرف قليلًا في اتجاه المادة. لكل 3000000000 من جسيمات المادة المضادة، كان هناك 3000000001 من جسيمات المادة. تجمعت معا وأفنت 3 مليارات من جسيمات المادة و3 مليارات من جسيمات المادة المضادة بعضها البعض متحولة إلى طاقة، تاركة المادة المتبقية الخفيفة لتشكل الكون الذي نراه اليوم.

منذ استيعاب هذا اللغز قبل قرن تقريبًا، صار الباحثون يدرسون المادة والمادة المضادة لمعرفة ما إذا كان بإمكانهم العثور على سلوك للجسيمات دون الذرية يمكنها تفسر زيادة المادة. كانوا واثقين من أن المادة والمادة المضادة تصنع بكميات متساوية، لكنهم لاحظوا أيضًا أن فئة من الجسيمات دون الذرية تسمى الكواركات تُظهر سلوكيات تفضّل المادة قليلًا على المادة المضادة.

كان قياس هذا الجسيم دقيقًا، حيث كان يشتمل على فئة من الجسيمات تسمى (ميزونات K أو (كاون)) والتي يمكنها أن تتحول من المادة إلى المادة المضادة والعودة مرة أخرى. ولكن هناك اختلافًا طفيفًا في تحول المادة إلى المادة المضادة مقارنة بالعملية العكسية (أي تحول المادة المضادة إلى مادة). أتت هذه الظاهرة غير متوقعة وأدى اكتشافها إلى منح جائزة نوبل عام 1980، لكن حجم الأثر لم يكن كافيًا لشرح لماذا تهيمن المادة على عالمنا.

● الكاون (kaon) في فيزياء الجسيمات هو جسيم أولي من عائلة البوزونات، وينتسب إلى مجموعة الميزونات، بالمشاركة مع البيونات، أوجده العلماء معمليا، وتحتوي كل الكاونات أيضًا على الكوارك المسمى بالغريب (strange) أو الكوارك المضاد له كذلك، وهي مثلها مثل الميزونات يمكن أن تأخذ الشحنة الموجبة أو السالبة أو أن تكون متعادلة، وهي أيضًا تتميز بعمر قصير جدًا قبل أن تتحول إلى جسيمات أخرى.

الحزم الشبحية Ghostly beams

لذلك حول العلماء اهتمامهم إلى النيوترينو، لمعرفة ما إذا كان سلوكه يمكن أن يفسر زيادة المادة عن المادة المضادة. النيوترينوات هي أشباح العالم دون الذري، تتفاعل فقط من خلال القوى النووية الضعيفة، ويمكنها المرور عبر المادة دون أن تتفاعل إطلاقًا. لإعطاء تصور لحجمها، تُخَلَّق النيوترينو بشكل شائع في التفاعلات النووية، إن أكبر مفاعل نووي حولنا هو الشمس. ولحماية شخص ما من نصف النيوترينوات الشمسية تستلزم حائلًا ذا كتلة من الرصاص الصلب بسمك 5 سنوات ضوئية. من الواضح أن النيوترينوات لا تتفاعل كثيرًا.

بين عامي 1998 و 2001، أثبتت سلسلة من التجارب – واحدة باستخدام كاشف تجربة سوبر كاميوكاندي والأخرى باستخدام (مرصد سودبوري للنيوترينو SNO detector in Sudbury, Ontario) وهو مرصد أو كاشف للنيوترينو يقع على عمق 2100 متر تحت الأرض في منجم للنيكل النشط يبعد حوالي 25 كيلومتر من وسط مدينة غريتر سودبوري الكندية- بشكل قاطع أن النيوترينوات تظهر سلوكًا مدهشًا آخر. إنها تغيّر هويتها.

يعرف الفيزيائيون ثلاثة أنواع مختلفة من النيوترينوات، كل منها مرتبط بأخوة دون ذرية فريدة، تسمى الإلكترونات والميونات muons والتاوونات taus. الإلكترونات هي التي تسبب الكهرباء، وجزيئات الميوون والتاوون تشبه إلى حد كبير الإلكترونات، لكنها أثقل وزنا وغير مستقرة. الأنواع الثلاثة من النيوترينو، تسمى نيوترونو الإلكترون ونيوترينو الميوون ونيوترينو التاوون، يمكنها أن «تتحول» إلى الأنواع الأخرى من النيوترينو ثم تعود إلى أصلها مرة أخرى. يدعى هذا السلوك (تذبذب النيوترينو).

إن تذبذب النيوترينو هو ظاهرة كوانتية فريدة، إنها تشبه إلى حدٍّ ما البدء بتناول كأس آيس كريم من الفانيليا، وبينما تبحث عن ملعقة لتكمل أكل الأيس كريم، ستجد أن كأس الآيس كريم قد أصبح نصف فانيليا ونصف شوكولاته. تغير النيوترونات هويتها من كونها نوعًا واحدًا، إلى مزيج من الأنواع، ثم إلى نوع مختلف تمامًا، ثم تعود إلى النوع الأصلي.

تذبذبات المادة المضادة للنيوترينو Antineutrino oscillations

تنتمي النيوترينوات إلى جسيمات المادة، ولكن المادة المضادة للنيوترينو، والتي تسمى antineutrinos، موجودة أيضا. وهذا بدوره يطرح سؤالين في غاية الأهمية: تتذبذب النيوترينوات، ولكن هل تتذبذب أيضًا المادة المضادة للنيوترينو؟ وهل تتذبذب بنفس الطريقة مثل النيوترينو؟ الإجابة على السؤال الأول هي نعم، في حين أن الإجابة على السؤال الثاني غير معروفة.

لفهم الموضوع بشكل أعمق وبطريقة مبسطة: لنفترض أن هناك نوعين فقط من النيوترينو – الميوون والإلكترون. افترض كذلك أن لديك شعاعًا من نيوترينو الميونات فقط. ستتذبذب النيوترينو بسرعة محددة، ولأنها تتحرك بسرعة تقترب من سرعة الضوء، فإنها ستتذبذب كدالة في المسافة (تبعا للمسافة التي سيقطعها الشعاع) من النقطة التي تم إطلاقها منها. وهكذا، فإن حزمة نيوترينو الميوون النقية ستبدو كمزيج من أنواع الميون والإلكترون خلال جزء من المسافة، ثم أنواع نيوترينو الإلكترون فقط في جزء آخر من المسافة ثم تعود إلى نيوترينو الميوون النقية مرة أخرى. المادة المضادة للنيوترينو تفعل الشيء نفسه.

ومع ذلك إذا تذبذبت المادة والمادة المضادة للنيوترينو بمعدلات مختلفة قليلًا، فستتوقع أنك إذا كنت على مسافة ثابتة من النقطة التي أُطلِقَ منها شعاع من نيوترينو الميوون النقية أو المادة المضادة لنيوترينو الميوون ، ففي حالة النيوترينو سترى مزيجًا واحدًا من نيوترينو الميوون ونيوترينو الإلكترون، ولكن في حالة المادة المضادة للنيوترينو، سترى مزيجًا مختلفًا من المادة المضادة لنيوترينو الميوون ونيوترينو الإلكترون. إن الوضع الفعلي معقد بسبب حقيقة أن هناك ثلاثة أنواع من النيوترينو والتذبذب يعتمد على طاقة الحزمة، ولكن هذه هي الفكرة الأساسية.

إن رصد ترددات التذبذبات المختلفة بواسطة النيوترينو ومضاداتها الذاتية خطوة مهمة نحو فهم حقيقة لماذا الكون مصنوع من المادة. هذه ليست نهاية القصة، لأن هناك ظواهر جديدة إضافية يجب أن تتضمنها الحكاية أيضًا، فالفرق بين المادة والمادة المضادة للنيوترينو ضرورية لشرح سبب وجود المزيد من المادة في الكون.

في النظرية الحالية السائدة التي تصف تفاعلات النيوترينو، هناك متغير حساس لاحتمالات تذبذب النيوترينو والنيوترينو المضاد بشكل مختلف. إذا كان هذا المتغير يساوي صفرًا، فإن هذين النوعين من الجسيمات يتأرجحان بمعدلات متماثلة؛ إذا تغيرت قيمة هذا المتغير عن الصفر، يتذبذب هذان النوعان من الجسيمات بشكل مختلف.

عندما قاست تجربة T2K هذا المتغير، وجدوا أنه لا يتفق مع الفرضية القائلة بأن النيوترينو والنيوترينو الضاد يتأرجحان بشكل مماثل. بشكل تقني أكثر لقد حددوا مجموعة من القيم المحتملة لهذا المتغير. هناك احتمال بنسبة 95٪ أن تكون القيمة الحقيقية لهذا المتغير ضمن هذا النطاق، ولكن هناك احتمال 5٪ فقط أن المتغير الحقيقي خارج هذا النطاق. فرضية «عدم وجود اختلاف» تقع خارج نطاق 95٪.

بعبارات أبسط، يشير القياس الحالي إلى أن النيوترينو والنيوترينو المضاد يتذبذبان بشكل مختلف، على الرغم من أن اليقين لا يرتقي إلى المستوى المطلوب لادعاء حاسم. يشير المنتقدون إلى أنه ينبغي النظر إلى القياسات بهذا المستوى من الأهمية الإحصائية بشكل أكثر دقة. ولكنها بالتأكيد نتيجة أولية مستفزة للغاية، والمجتمع العلمي في العالم مهتم برؤية دراسات محسنة أكثر ودقيقة.

ستستمر تجربة T2K في تسجيل بيانات إضافية على أمل إجراء قياس نهائي، ولكنها ليست التجربة الوحيدة حاليًا، إذ أنه في معامل فيرمي، التي تقع خارج شيكاغو، تقوم تجربة مماثلة تسمى NOVA بتصوير النيوترينو والمادة المضادة للنيوترينو في شمال ولاية مينيسوتا، على أمل التفوق على تجربة T2K. بالنظر إلى المستقبل تعمل معامل فيرمي جاهدة على ما سيصبح تجربتها الرائدة، والتي يطلق عليها DUNE (تجربة نيوترينو تحت الأرض العميقة)، والتي ستتمتع بقدرات أعلى بكثير لدراسة هذه الظاهرة المهمة.

في حين أن النتيجة T2K ليست نهائية ويكتنفها الكثير من الحذر، لكن المؤكد أنها محيرة. بالنظر إلى ضخامة السؤال عن سبب أن كوننا لا يمتلك الكثير من المادة المضادة، فإن المجتمع العلمي العالمي سينتظر بشغف المزيد من التحديثات.

ترجمة: مصطفى العدوي
تدقيق: جعفر الجزيري

المصدر

اقرأ أيضًا:

أسئلةٌ عن المادّة المظلمة لم يجب عليها حتّى الآن

لماذا يطارد الفيزيائيون أغرب الجسيمات الشبحية أو النيوترينوات ؟

البحث عن الجسيم الشبح ( النيوترينو )

هل تحمل النيوترينوات المفتاح لحل أسرار الكون؟