البحث عن الجسيم الشبح (النيوترينو)


يعد رصد الجسيم دون الذري «نيوترينو» صعبًا للغاية؛ بسبب كتلته شبه المعدومة وافتقاره لأي شحنة تذكر، لهذا أطلق عليه الفيزيائيون تسمية «الجسيم الشبح».

إلا أن النوع الأكثر غرابة للجسيم الشبح هو «النيوترينو العقيم» الذي ما زال وجوده افتراضيًا، فمحاولات البحث عنه –بما فيها المحاولة الأخيرة التي أجراها الباحثون- باءت جميعها بالفشل.

يستحق إثبات وجود النيوترينو محاولة أخيرة على الأقل؛ لما سيحدثه هذا الاكتشاف من تغيير أساسي في الفيزياء التي نعرفها اليوم، وفي طريقة فهمنا للكون.

جهز الفيزيائيون -من معهد العلوم الأساسية في كوريا الجنوبية- تجربة لرصد ذبذبات النيوترينو العقيم ضمن الجسيمات المنبعثة من محطة «هانبيت» لتوليد الطاقة النووية في يونجونج، كوريا الجنوبية.

لم تسمى النيوترينات بالأشباح عبثًا؛ فعلى الرغم من انتمائها لنفس عائلة الجسيمات التي تنتمي لها الإلكترونات، إلا أنها لا تمتلك شحنة كهربائية، ما يعني أن الوسيلة الوحيدة لتتفاعل مع جسيمات أخرى هي عن طريق الجاذبية والقوى النووية الضعيفة.

كان يُعتقد في بادئ الأمر أن كتلة هذه الجزيئات تعادل الصفر، بسبب ضآلتها. فالطريقة العملية الوحيدة لرصدها هي الانتظار إلى أن يصطدم إحداها ببروتون أو نيوترون في نواة ذرة مسببًا تفاعلًا.

توجد أعداد لا تحصى من النيوترينات الناتجة من تفاعلات نووية داخل شمسنا والنجوم السحيقة، تمر من خلالك -في كل ثانية- المليارات منها دون أن تتوقف.

يستخدم الفيزيائيون -لرصد نيوترينو في الفضاء الخارجي- مقاييس ضخمة، مستعينين بخزانات مياه عملاقة تحت الأرض محاطة بأجهزة كشف فوتونية، قادرة على رصد أي وميض إشعاعي نادر قد ينبعث عند اللحظة التي يصطدم بها النيوترينو مع أحد الجسيمات دون الذرية في المياه، مجبرًا إياه على إطلاق الإلكترونات.

بالرجوع في الزمن إلى عام 1960، اكتشف الفيزيائيون النيوترينات في ثلاثة أشكال أو «نكهات»، إلكترون نيوترينو وميوون نيوترينو، وتاو نيوترينو. تتابعت بعد ذلك التجارب على النيوترينات القادمة من الشمس، لاحظ العلماء عدم تطابق الأرقام مع النماذج؛ فقد كان نصف أو ثلثي النيوترينات الإلكترونية مفقودًا. ت

فسر الأمر عندما اكتشف لاحقًا أن النيوترينات تبدل صفاتها في منتصف رحلتها، ما زاد الطين بلة في السعي لرصدها.

رصد بحث أقيم في نيومكسيكو عام 1990 شيئًا غير اعتيادي في ذبذبات النيوترينات، ملمحًا إلى احتمالية جهلنا بنوع آخر من النيوترينات.

رصدت تجربة أخرى أجريت عام 2011 فجوة ممكنة في النتائج تمهد الطريق لنوع أو نكهة رابعة، إذ توصلت إلى عدد أقل من المتوقع بنسبة 7%.

إلا أن حسابات العلماء تشير إلى أنه -من الناحية التقنية ومع حقيقة أن النيوترينات لا تحمل أي شحنة كهربائية- لا مجال لأي نوع آخر منها، إلا في حال كان تصرفها شاذًا بعض الشيء.

وُصف كل من الإلكترون والميوون والتاوون بأنه أعسر، وهي خصيصة من إحدى خصائص الزخم الزاوي للنيوترينات.

من الطبيعي افتراض خضوع النيوترينات للطبيعة اليمينية؛ فالجسيمات الأخرى في الطبيعة تمتلك طبيعة يمينية.

تتجسد إحدى خصائص النيوترينو الافتراضي الغامض في افتقاره التام إلى التفاعل مع القوى النووية الضعيفة، ما يجعله عقيمًا بلا حول ولا قوة، ولتقريب الصورة إلى أذهاننا إليك العبارة التالية:

«إذا اعتبرنا أن النيوترينات الثلاثة -النشطة- أشباحاً، فإن النيوترينو العقيم هو ما ستصبح عليه النيوترينات بعد موتها».

شجعت هذه النتائج الباحثين لتأسيس مرصد نيوترينات إلكترونية صغيرة يقبع خلف حائط سميك من الرصاص، يبعد 24 مترًا فقط عن قلب مفاعل إشعاعي، آملين أن يرصدوا النيوترينات المنبعثة منه في كل ثانية.

بعد مقارنة نتائجهم مع الحسابات النظرية والنتائج من تجارب أخرى، فشل الباحثون في تكوين أي دليل يثبت وجود النيوترينات العقيمة، لكن لم تكن هذه التجربة إضاعة للوقت، فقد وجدوا شذوذاُ في بياناتهم يدل على وجود وفرة من النيوترينات عند طاقة تبلغ 5 ميجا إلكترون فولت، لكن لم يؤكد هذا بعد.

بالإضافة إلى أن هذه النتائج رسمت حدوداً جديدة للبحث عن الجسيمة، مقلصة البحث عن الذبذبات التي تحول الإلكترونات النيوترينية إلى نيوترينات عقيمة، وقد تنبأ العلماء بأن هذه النيوترينات العقيمة تتواجد إما بطاقة ضخمة 1015 جيجا إلكترون فولت، أو بضآلة 1 إلكترون فولت.

من الجدير بالذكر أن هذه النسخة الثقيلة الافتراضية تعتبر منافسًا للمادة المظلمة التي تشكل ما نسبته 80% من الكون والتي لا تزال تفتقر لتعريف كافي.

فشلت عدة محاولات لرصد أي إشارات للنيوترينات العقيمة، أجريت إحداها في مرصد آيس كيوب للنيوترينات في القطب الجنوبي العام المنصرم، معلنين أنهم شبه أكيدين أن هذا الجسيم ليس له وجود.

بالإضافة إلى مشروع مينوس في مسارع فيرمي الوطني في الولايات المتحدة الأمريكية وتجارب أخرى عديدة أُجريت في الصين باءت جميعها بالفشل.

يقول الباحث «أوه يومين»: «لا تعني هذه النتائج أن النيوترينات العقيمة غير موجودة، لكنها تعني أن مهمة إيجادها تعد تحدياً أكبر مما اعتقدنا سابقًا».

لذلك فالصبر وجرعة كافية من التفاؤل، كل ما نحتاج إليه للوصول إلى غايتنا.


ترجمة: قصي أبوشامة
تدقيق: الاء أبو شحوت

المصدر