تكمن مفارقة في حقيقة أن الأجسام الأكثر “ظلامًا” في السماء -الثقوب السوداء- قد تكون مسؤولةً عن بعض الأضواء الأكثر سطوعًا في الكون. قدمت عمليات المحاكاة للحقول المغناطيسية المحيطة بالثقوب السوداء والنجوم النيوترونية تفسيرات جديدة للتألق المدهش لتلك الأجسام.
لقد طور علماء الفيزياء الفلكية من جامعة كولومبيا Columbia University في نيويورك New York نموذجًا يظهر كيف يمكن للإلكترونات التي تتأرجح عبر الاضطرابات المغناطيسية أن تولد بشكل مذهل موجات إشعاعية مفعمة بالطاقة.
يساعد تطبيق ذلك النموذج على الفوضى الحائمة والمحيطة بالأجسام الكثيفة كالثقوب السوداء، في توضيح سبب رؤيتنا لتلك الأجسام وهي تتوهج بشدة تستعصي على التفسير حتى الآن.
لا مجال للجدال على أن بعض هذا اللمعان على الأقل يأتي من جسيمات تسخن بشكل شديد ضمن قرص من الغاز والغبار اللذَين يتحركان بشكل حلزوني نحو هلاكهما.
بالإضافة إلى ذلك تستطيع الجسيمات المشحونة ضمن هذا الرفات الذي يحوم بشكل حلزوني توليد بعض الحقول المغناطيسية الشديدة جدًا، مصوبةً بذلك المواد إلى نفثات تطلق الجسيمات بمسافة سنوات ضوئية إلى الفضاء بسرعات تجعلها تتوهج مع الإشعاع الكهرومغناطيسي الشديد.
لكن توجد ضمن طيف الفوتونات المنبعثة من الفضاء المحيط ببعض الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية موجات لا يمكن تفسيرها بسهولة؛ فهي مفعمة بالطاقة كثيرًا على أن تكون حرارية، ولا يبدو أنها تأتي من المناطق حيث يوجه الغاز والغبار.
هذا لا يعني أنه لا توجد طرق أخرى يمكن بها تسريع المواد لمستويات السرعة التي قد ينبعث بها المستوى الصحيح من الإشعاع الكهرومغناطيسي.
يقول أحد الباحثين في الدراسة لوكا كوميسو Luca Comisso: «يعمل الاضطراب وإعادة التوصيل المغناطيسي -وهي العملية التي تُمزق فيها خطوط الحقل المغناطيسي وتعيد التوصيل بسرعة- معًا لتسريع الجسيمات، ما يعزز سرعاتها الخطية إلى مستويات تقترب من سرعة الضوء».
وبشكل مشابه للصفوف الدقيقة من الخطوط التي تظهر عند رش برادة الحديد حول مغناطيس دائم؛ فإن الحقول المغناطيسية تشبه الممرات للجسيمات المشحونة.
حرك تلك المغانط بأسلوب حاد وغير متوقع، وسوف تنفصل طرق الإلكترون تلك وتعيد التوصيل مع بعضها البعض، ما يحول المسار اللطيف إلى مسار حاد وشديد.
في الماضي، ساعدت فوضى الحقول المغناطيسية المضطربة حول كوكبنا على تفسير بضعة ظواهر في الفيزياء الفلكية، مثل: أين تذهب طاقة الإلكترونات عالية السرعة عندما تصطدم بغلافنا المغناطيسي.
يقول كوميسو: «بفضل الحقل الكهربائي المحرض بإعادة التوصيل والاضطراب، تُسرع الجسيمات لتصل إلى أكثر مستويات الطاقة شدةً، وهي أعلى بكثير من أقوى المسرعات على الأرض مثل مصادم الهادرون الكبير Large Hadron Collider في سيرن CERN».
بالنظر إلى النجاح الذي حققه الاضطراب في مجالات معرفية أخرى، من المغري استكشافه فيما يتعلق بفيزياء الطاقة العالية التي تنتجها الثقوب السوداء. تكمن المشكلة الوحيدة في كون الالتواء غير المتوقع للحقول المغناطيسية المضطربة يُعد من الأمور الصعبة على النمذجة الرياضية.
لتبسيط المهمة، قسّم الباحثون حركات الجسيمات المتحركة في البلازما إلى وحدات يمكن حسابها بسهولة أكبر.
يقول زميل كوميسو، لورنزو سيروني Lorenzo Sironi: «استخدمنا التقنية الأكثر دقةً -طريقة الجسيم في الخلية- لحساب مسارات مئات المليارات من الجسيمات المشحونة التي تفرض بشكل دائم ذاتي الحقول الكهرومغناطيسية». وأضاف: «يوجه هذا الحقل الكهرومغناطيسي حركة تلك الجسيمات المشحونة».
وأظهرت نتائجهم كيف يمكن للإلكترونات التي تتحرك ذهابًا وإيابًا من خلال الحقول المغناطيسية المضطربة أن تولد بشكل كامن الطاقات اللازمة لإشعاع يتجاوز قدرة الحرارة في توليده وحدها.
وأظهروا أن معظم هذه الطاقة الإضافية تأتي من تحركات عشوائية بسرعات عالية للغاية. حين تنعطف الجسيمات المشحونة، فإنها تبعث موجات قوية من الإشعاع الكهرومغناطيسي.
يقول سيروني: «هذا بالفعل هو الإشعاع المنبعث حول الثقوب السوداء والنجوم النيوترونية الذي يجعلها تتألق، وهي ظاهرة يمكننا رصدها على الأرض».
واحدة من الأشياء الغريبة في كوننا هي البقايا الكثيفة للمستعر الأعظم في مركز سديم السرطان Crab Nebula. انتاب الفيزيائيين الفضول حول إلكتروناتها عالية السرعة لبعض الوقت.
يخطط الباحثان الآن لتطبيق نتائجهما مباشرة على طيف السديم، في محاولة لإظهار كيف يمكن تفسير هذا اللغز باستخدام الاضطراب وحده.
يقول كوميسو: «توصلنا إلى علاقة مهمة بين الاضطراب وإعادة التوصيل المغناطيسي لتسريع الجسيمات، ولكن ما يزال هناك الكثير من العمل الذي يجب فعله».
اقرأ أيضًا:
قد نعرف أخيرا كيف تصبح الثقوب السوداء الفائقة ضخمة بشكل لا يصدق
وجد علماء الفلك ثقبًا أسود يتقلص بشكل غامض
ترجمة: رولان جعفر
تدقيق: بدر الفراك
مراجعة: آية فحماوي