ربّما تكون الثقوب السوداء الفائقة هي الغراء الجاذب الذي يقيّد مجرّة ما، ولكنّها أيضًا أحجية هائلة.

أحد الألغاز التي قد أغاظت علماء الفلك: كيف يمكن أن ينتهي الأمر بالثقوب السوداء بهيئة قمل الخشب*؟

لنأخذ (Sagittarius A*) على سبيل المثال؛ وهو الثقب الأسود الفائق في مركز مجرّة درب التبانة.

كتلته تعادل حوالي أربعة ملايين مرّة كتلة الشمس، وهو بعيدٌ كلَّ البعد من أن يكون أكبر ثقبٍ أسود موجود في الفضاء.

النواة النجميّة التي تنهار في الثقب الأسود ستحتفظ بكتلة «ما قبل الثقب الأسود» في حيّزٍ أصغر وأكثر كثافة بكثير؛ ما يعني أنّ الثقوب السوداء تكتسب الكتلة من خلال التهامها – أو مراكمتها – للمادّة من ما وراء أفق الحدث.

لكنّ الثقوب السوداء الفائقة هائلة جدًّا، ونموذج انهيار المركز الذي يُشاهد في الثقوب السوداء النجميّة قد لا ينطبق ببساطة، خاصّةً لأنّنا لسنا متأكدين حتّى من وجود أيّ ثقوب سوداء بين هذين الحجمَين.

في الوقت الحالي، ربّما كشف فريق من علماء الفلك عن دليل على كيفيّة وصول هذه الثقوب السوداء الفائقة إلى هكذا حجم ضخم.

لقد رصدوا واحدًا من تلك الثقوب السوداء وهو يلتهم المادّة؛ بطريقةٍ لم تُشاهد أبدًا في السابق.

كان يُعتقد فيما مضى أنّ الثقوب السوداء الفائقة لديها نمطان «للتغذية».

يُعرف النمط الأوّل بأنّه «حدث الاضطراب المدّي الجزري»؛ ويحدث عندما يمسك الثقب الأسود نجمًا عابرًا في شبكة جاذبيته ممزّقًا بعنف النجم إلى أشلاء، مراكمًا بعضًا منه على الأقل.

النمط الثاني هو «نواة مجرّية نشطة»، وهي المراكمة شبه المستمرّة للغبار والغاز من القرص الذي يحوم حول الثقب الأسود، مثل المياه المتدفّقة إلى مجرىً ما.

يُنتِج كلا هذين الحدثين علامة فارقة محدّدة يمكن التعرّف عليها عبر مجموعة متنوّعة من الأطياف وهي ارتفاع مفاجئ وجيز لا يستغرق سوى بضعة أشهر بالنسبة إلى «حدث الاضطراب المدّي الجزري»، أو إشارة أدنى ومتسمرّة تدوم لعدّة سنوات بالنسبة إلى «نواة مجرّية نشطة».

ما رصده علماء الفلك باستخدام شبكة (ASAS-SN) هو نوعٌ جديد كليًّا من الإشارات، يأتي من حدث يُدعى (AT 2017bgt)، رُصد حول ثقب أسود فائق كتلته تعادل 14 مليون مرّة كتلة الشمس.

قال عالم الفيزياء الفلكيّة (بيني تراختنبروت – Benny Trakhtenbrot) من (إي. تي. اتش. زيوريخ – ETH Zurich): «السطوع المفاجئ الصادر عن (AT 2017bgt) كان مُذكِّرًا بحدث الاضطراب المدّي الجزري».

«لكنّنا أدركنا بسرعة أن هذه المرة كان هنالك شيءٌ غير عادي.

وكان أوّل دليل على ذلك هو مكوّن إضافي للضوء، والذي لم يسبق رؤيته في أحداث الاضطراب المدّي الجزري».

جَمَعَ هو وفريقه بيانات عامٍ كامل حول الثقب الأسود، وتوصّلوا أخيرًا إلى استنتاج مفاده أنّه لم يتطابق مع أي أحداث تغذية ثقب أسود رُصدت من قبل.

ما رأوه هو أنّ الانبعاث المرئي وفوق البنفسجي حول الثقب الأسود ازداد بنحو 50 % لأكثر من عام، وانبعاث الأشعة السينيّة بعدّة أضعاف، قبل أن يفنى.

ما يتضّح من البيانات أنّهم يعتقدون أنّه ربّما يكون المسبّب هو تغّذي الثقب الأسود على الغاز من الفضاء المحيط به، ولكن هناك حاجة إلى مزيد من العمل لتأكيد ذلك، لأنّه سيتعيّن أن يكون هناك الكثير من الغاز أكثر من كتلة النجم.

يوضّح عالم الفلك (آندي هاول – Andy Howell) من مرصد (لاس كومبريس – Las Cumbres): «إنّ (النواة المجرّية النشطة) تشبه التعرّض لانهمار المطر؛ أيّ تقاطرٌ ثابت قد يتفاوت قليلًا في شدّته، ولكنّه يدوم لفترة من الزمن.

(حدث الاضطراب المدّي الجزري) يشبه التعرّض للرش بواسطة مرشّ الري؛ أيّ هناك تيّارٌ واحد من الماء، وربّما يكون أكثر شدّة من المطر».

«لكنّ هذا النوع الجديد من الوهج يشبه التعرّض لخرطوم إطفاء حريق في الوجه.

الآن علينا أن نفهم “كيف صنعت الطبيعة ذلك بحقّ الجحيم؟” الثقوب السوداء أغرب ممّا كنا نعتقد».

في ورقتهم البحثيّة، حدّد الفريق حدثَين آخرَين لتغذية الثقب الأسود مؤخرًّا يمتلكان نفس العلامة الفارقة؛ ما يعني أنّ الاحتمالات راجحة بأنّ (AT 2017bgt) لم يكن مجرّد حدثٍ نادر.

وهذا يعني أيضًا أنّ الاحتمالات راجحة بأنّ يُرصد هذا النوع من الأحداث مرّة أُخرى في المستقبل.

قال عالم الفيزياء الفلكيّة (لاير أركافي – Iair Arcavi ) من (جامعة تل أبيب – Tel Aviv University): «نأمل في الكشف عن المزيد من مثل هذه الأحداث، ومتابعتها بعددٍ من التلسكوبات التي تعمل بالتزامن».

«هذه هي الطريقة الوحيدة لاستكمال تصوّرنا لنموّ الثقب الأسود، ولفهم ما الّذي يسرّعه، وربّما حلّ لغز كيفيّة تشكّل هذه الوحوش العملاقة».

نُشر بحث الفريق في مجلّة (نيتشر أسترونومي – Nature Astronomy)

هامش:

(*) قمل الخشب مُبيّن في الصورة التالية:


  • ترجمة: رولان جعفر
  • تدقيق: جعفر الجزيري
  • تحرير: عيسى هزيم
  • المصدر