يعتبر الزمكان في علم الفيزياء مفهومًا يعترف بالاتحاد بين الزمان والمكان ، إذ اقتُرِح لأول مرة من طرف عالم الرياضيات هيرمان مينكوفسكي (Hermann Minkowski) سنة 1908، وذلك في محاولة منه لإعادة صياغة نظرية النسبية ل آينشتاين حول تأثير الجاذبية على الزمكان التي رأت النور سنة 1905. قبل ظهور هذه الأفكار، كان الوعي الجماعي في الوسط العلمي يقترح عدم وجود صلة بين المكان والزمان. كان ينظر للمكان الفيزيائي على أنه استمرارية مسطحة وثلاثية الأبعاد، كنسق يحتوي كل المواقع الممكنة ــ التي يمكن أن تطبق عليها مسلمات إقليدس. في هذا النظام المكاني المتشعب، تبدو الإحداثيات الديكارتية مناسبة لاستيعابها، كما تكون الخطوط المستقيمة أكثر ملائمةً.
كان ينظر للزمن على أنه مستقل عن المكان – كاستمرارية منفصلة أحادية البعد، متماثلة تمامًا على طول مداها غير المحدود. وكان يُنظر إلى “الآن” على أنها الأصل الذي تستغرق فيه المدة ما بين الماضي والمستقبل بالنسبة لأي لحظة زمنية أخرى، حيث نظم الإحداثيات الزمانية المتجانسة والمتحركة مربوطة بزمن واحد مستمر يمثل كل الحركات غير المتسارعة، وهذا ما يدخل ضمن الفئة الخاصة، التي يطلق عليها اسم “الأطر المرجعية للقصور الذاتي”. كان العالم وفقًا لهذا النوع من الاعتقادات الفكرية “نيوتينيًا” ــ نسبةً إلى إسحق نيوتن. في الكون النيوتيني، تكون قوانين الفيزياء متماثلة في كل الأطر المرجعية للقصور.
أما في عالم مينكوفسكي، فتكون إحداثية الزمان لنظام إحداثي واحد معتمدة على كل من إحداثيات الزمان والمكان لنظام آخر متحرك نسبيًا وفقًا لقاعدة تشكل التعديل الأساسي المطلوب لنظرية آينشتاين للنسبية. فوفق نظرية آينشتاين، لاوجود لشيءٍ اسمه “التزامن” على نقطتين مختلفتين من المكان، ومنه لا وجود لزمن مطلق مثل الذي نجده في عالم نيوتن.
عالم مينكوفسكي يحتوي مثل سابقيه على فئة خاصة للأطر المرجعية للقصور، لكن هذه المرة مع أبعاد وكتلة وسرعات تكون كلها نسبية للإطار القصوري الخاص بالمراقب، بالعودة إلى قوانين خاصة صيغت لأول مرة من طرف هندريك أنتون لورنتس (H.A. Lorentz)، لتشكل نواة قوانين نظرية آينشتاين ومن ثم تفسير مينكوفسكي لها. سرعة الضوء هي الوحيدة التي تبقى ثابتة في كل الأطر القصورية. كل مجموعة من الإحداثيات أو أي حدث خاص كان في الزمكان في مثل هكذا كون يوصف بالـ “هنا-الآن”. تبقى قوانين الفيزياء غير متغيرة في كل إطار مرجعي للقصور.
تستخدم نظرية النسبية العامة لآينشتاين كذلك نفس مفهوم الزمكان رباعي الأبعاد، لكن تدمج معه هذه المرة آثار الجاذبية. لم يعُد ينظر إلى الجاذبية كقوة كما كان الأمر في نظام نيوتن، بل كنتيجة لـ “تشوه” الزمكان، وهو أثر شُرح بشكل مفصل في مجموعة من المعادلات وضعها آينشتاين. نتيجةً ذلك هي زمكان “منحنٍ”، عكس زمكان مينكوفسكي “المسطح”، حيث تكون مسارات الجسيمات على خطوط مستقيمة في نظام إحداثي قصوري معين.
في زمكان آينشتاين المنحني -التي تعتبر كمساهمة مباشرة في فكرة ريمان للفضاء المنحني (1854)- يتبع الجسيم ما يسمى بخط العالم أو الجيوسيدية، بطريقة مشابهة بعض الشيء لمسار كرة البيلياردو على سطح مشوه، حيث ستتبع الكرة مسارًا يُحدَد عبر السطح المشوه أو المنحني.
من أبرز مبادىء النسبية العامة، أنه بداخل الشيء المُحتوي الذي يتبع جيوسيدية الزمكان، مثل مصعد في سقوط حر أو قمر صناعي في مدار حول الأرض، يكون الأثر نفسه بسبب غياب الجاذبية. من جانب آخر، تعتبر مسارات أشعة الضوء من جيوسيديات الزمكان كذلك، لكن من نوع مختلف، تسمى “جيوسيدية لاغية”. سرعة الضوء ثابتة كذلك في نظرية النسبية العامة، يعبر عنها بـ velocity c.
في كل من نظريتي نيوتن وآينشتاين، يعتبر المسلك من الكتل الجاذبية إلى مسارات الجسيمات ملتويًا نوعًا ما. في صيغة نيوتن، تحدد الكتلة قوة الجذب الإجمالية عند كل نقطة، وهذا ما يحدد كذلك تسارع الجسيم حسب القانون الثالث لنيوتن. إن المسار الحقيقي لشيءٍ ما، مثل مدار كوكب معين، يتم الوصول إليه عبر حل العديد من المعادلات.
أما في النسبية العامة، فيجب على المرء أن يحل معادلات آينشتاين لوضعية معينة من أجل تحديد الشكل المناسب للزمكان، يعد ذلك حل مجموعة ثانية من المعادلات لإيجاد مسار الجسيم. وتمكن آينشتاين من استنتاج بعض الآثار مثل انحراف الضوء عند مروره بأجرام ضخمة مثل النجوم، عبر استحضار المبدأ العام للتساوي بين آثار الجاذبية والتسارع الموحد.
أول حل صحيح لمعادلات آينشتاين تخص كتلة كروية منفردة، كان من نصيب كارل شوارزشيلد (Karl Schwarzschild) سنة 1916. أما بالنسبة للكتل الصغيرة، فإن الحل لا يختلف كثيرًا عن ذلك الذي طرحه نيوتن في قانونه للجاذبية، لكنه كان كافيًا لحل إشكالية حجم تقدم حضيض كوكب عطارد، الذي لم يتمكن أحد من شرحه قبل ذلك. بالنسبة للكتل الضخمة، فيتوقع حل شوارزشيلد ميزات غير عادية.
في هذا الشأن دائمًا، قادت المراقبات الفلكية للنجوم القزمة عالمي الفيزياء الأمريكيين ج. روبرت أوبنهايمر (J. Robert Oppenheimer) وسولومون شنايدر (Solomon Snyder) سنة 1939، إلى صياغة فرضية الحالة فائقة الكثافة للمادة. كل هذه الشروط الافتراضية للجاذبية، وشروط أخرى تنهار تمامًا في النجوم النابضة والنجوم النيوترونية والثقوب السوداء، حسبما كشفت عنه آخر الإكتشافات.
هذا وقد سمحت ورقة بحث لاحقة لآينشتاين (1917) بتطبيق النسبية العامة في علم الأكوان، وهذا في الحقيقة يشكل ولادة علم الأكوان الحديث. في تلك الورقة، ينظر آينشتاين إلى نماذج الكون التي تناسب معادلاته تحت ضوء افتراضات مناسبة للحجم الضخم للكون، مثل تجانسه، وهذا يعني أن الكون يتشابه في كل جزءٍ منه (المبدأ الكوني).
على ضوء هذه الافتراضات، أظهرت الحلول الكون وكأنه في حالة توسع أو انكماش، ومن أجل خلق كون لم يحصل فيه هذان الأمران، أضاف آينشتاين شيئًا إضافيًا إلى معادلاته يطلق عليه اسم “الثابت الكوني”. عندما أثبت المراقبات لاحقًا أن الكون بالفعل يبدو في حالة توسع، قام آينشتاين بسحب اقتراحه. رغم ذلك، تحليلات أكثر توسعًا قام بها باحثون في أواخر التسعينات حول توسع الكون، قادت علماء الفلك إلى الإيمان بضرورة إضافة الثابت الكوني إلى معادلات آينشتاين بالفعل.
اقرأ أيضًا:
- الحلقة الأولى من سلسلة الزمن في لبنات الكون: الزمان والمكان إلى الزمكان
- ما هي المتفردة الزمكانية؟
- أشهر وأجمل أقوال ستيفن هوكينج
- أقرب لقطة حصلنا عليها لنقطة اللاعودة للثقب الأسود في مركز مجرة درب التبانة
إعداد : وليد سايس
تدقيق: رزوق النجار