هل يسبب التعرض للشدائد الكبيرة “بياض شعر الرأس”؟ أو هي حكاية تناقلها الناس عبر الزمن دون أساسٍ من الصحة؟ مع الكثير من التكهنات والقليل من الأبحاث العلمية التي تؤكد أو تدحض الفكرة، نفّذ فريق من الباحثين من جامعة هارفارد ومركز أبحاث الأمراض الالتهابية (CRID) في ساو باولو بحثًا استطاع إيجاد صلة بين فرط تنشيط الجهاز العصبي الودي وتدفق النوإيبنيفرين (النوأدرينالين) norepinephrine من جهة، واستنزاف الخلايا الجذعية المسؤولة عن تجديد الصباغ في بصيلات الشعر عند الفئران من جهة أخرى. إذ يحوّل تفاعل متسلسل الشعر إلى اللون الأبيض عند التعرض للشدائد بالفعل، وقد نُشرت هذه النتائج (تشانغ وآخرون، 2020) في 22 يناير في مجلة نيتشرNature.
يظهر عادةً القليل من الشيب في الشعر عند الرجال والنساء في عقدهم الثالث، ويزداد بشكل ملحوظ عند بلوغ الخمسين. لكن، هل تعرف شخصًا يدّعي أنه شابَ بفعل المصائب؟ أو هل حدث ذلك معك؟
الحكاية الأكثر شهرة حول هذه الحالة ــــ تُسمى «نُصول الشعر» ـــ هي قصة ماري أنطوانيت (1755-1793). تقول الأسطورة إن ماري أنطوانيت صاحبة مقولة «دعهم يأكلون الكعك!» كانت خائفة حتى الموت حين أُدينت بتهمة الخيانة العظمى، وحُكم عليها بالإعدام بالمقصلة خلال الثورة الفرنسية في 1793.
في ذلك الوقت، قالت الشائعات والتقارير المثيرة إن شعرها صار أبيض اللون بين عشية وضحاها. كتبت هنرييت كامبمان وصيفة أنطوانيت في مذكراتها: «في ليلة واحدة، تحول [شعرها] إلى اللون الأبيض، وصار كشعر امرأة عمرها سبعون عامًا».
بعيدًا عن المبالغة في قصة ماري أنطوانيت، نملك الآن بعض الأدلة العلمية التي تبين أن قصص شيب الشعر بعد التعرض للشدائد تمثل بعض الحقيقة.
يقول المؤلف الكبير في الدراسة يا تشيه هسو Ya-Chieh Hsu: « لدى كل شخص منا حكاية يشاركها مع الآخرين حول كيفية تأثير الشدائد على أجسامنا، وخاصة على البشرة والشعر، لأنها الأنسجة الوحيدة التي نراها من الخارج.
وأردنا أن نفهم إن كانت هذه الصلة صحيحة، وكيف يقود التعرض للشدائد إلى تغيرات في الأنسجة المختلفة؟ إذ يسهل الوصول إلى نظام لون الشعر وتتبعه، إضافةً إلى أننا كنا فضوليين حقًا لمعرفة إن كانت الشدة تؤدي بالفعل إلى شيب الشعر».
أضاف المؤلف المشارك تياغو ماتر كونها Thiago Mattar Cunha: « لزمن طويل، اعتُقد أن التعرض للشدة يُبيّض الشعر، ولم يوجَد أساس علمي لذلك الاعتقاد حتى اليوم. أثبتت دراستنا أن هذه الظاهرة تحدث بالفعل، وتمكنا من تحديد الآليات المسؤولة. وجدنا بالإضافة إلى ذلك طريقة لإيقاف فقدان صباغ الشعر عند التعرض للشدة».
حين بدأ الباحثون بحثهم عن سبب هذه الظاهرة، توقّعوا أن يكون الكورتيزول «هرمون التوتر» “المتهم” الرئيسي وراءها، وقال هسو: «يرفع الإجهاد مستويات هرمون الكورتيزول في الجسم، لذلك اعتقدنا أن الكورتيزول قد يلعب دورًا، ولكن المدهش في الأمر، أننا أزلنا الغدة الكظرية من الفئران كي لا تتمكن من إنتاج الهرمونات الشبيهة بالكورتيزول، ومع ذلك تحول شعرها إلى اللون الرمادي تحت الشدة».
عندما أدرك الباحثون أن الكورتيزول لم يكن السبب الرئيس لتحول لون الشعر إلى الأبيض، وسّعوا نطاق تركيزهم ليشمل الجهاز العصبي الودي بالكامل (SNS)، وهو الجهاز المسؤول عن استجابة «القتال أو الهروب» عند البشر والفئران.
لاحظ الباحثون الذين استخدموا سلالةً مختبرية من الفئران ذات الفراء الداكن، أن أعصاب الجهاز العصبي الودي تتفرع لتصل إلى بصيلات الشعر كلها. عندما عانى الفأر من الشدة الحادة المولدة للألم في المختبر فُعّلت استجابة «القتال أو الهروب» في الجهاز العصبي الذاتي، وأدى ذلك إلى ارتفاع مستويات النورإبينفرين، ما سبّبَ إزالة قدرة الخلايا الجذعية على تجديد الصباغ في بصيلات الشعر. وأضاف هسو: « بعد أيام قليلة فقط فُقدت جميع الخلايا الجذعية المجددة للصباغ. وبمجرد زوالها، لا يمكن تجديد الصباغ ويصبح الضرر دائمًا».
وقال المؤلف الرئيسي بينغ تشانغ: « تقليديًا، نُظر إلى التوتر الحاد (الشدة الشديدة) وبخاصة استجابة (القتال أو الهروب) بكونها مفيدة لبقاء الحيوان، ولكن في هذه الحالة، يُسبب الإجهاد الحاد استنزاف الخلايا الجذعية بشكل دائم».
من النتائج الهامة التي تمخضت عنها الدراسة، أن الكبح العابر لتكاثر الخلايا الجذعية الصباغية يمنع ظهور الشيب الناتج عن الشدة. ووجد الباحثون أن علاج الفئران التي تعرضت للشدة بنوع من خافضات الضغط الدموي يثبط التفعيل العصبي الودي الذي يستهدف بصيلات الشعر فيمنع بذلك تغير لون الفراء عند الفئران.
لهذا البحث آثار واسعة في فهم دور الشدة الحادة في فقدان الخلايا الجذعية الجسدية بشكل دائم، وفهم تأثير الحالة الفيزيولوجية العامة للكائن على سلامة هذه الخلايا. ويمكن أن يمهد هذا البحث الطريق أمام دراسات أخرى لإيجاد أساليب للتعامل مع استجابة «القتال أو الهروب» المفرطة.
ويلخص هسو القول: «من خلال الفهم الدقيق لتأثير الشدائد على الخلايا الجذعية المجددة للصباغ، وضعنا أساسًا لفهم تأثير الشدة في الأنسجة والأعضاء الأخرى في الجسم. إن فهم التغيرات في أنسجتنا عند التعرض للضغط هو الخطوة الحاسمة الأولى نحو إيجاد العلاج النهائي الذي يمكن أن يوقف أو يعاكس التأثير الضار للتوتر. وما يزال أمامنا الكثير لنتعلمه في هذا المجال».
اقرأ أيضًا:
لماذا يَشحُب لون وجهك عندما تشعر بالخوف؟
ما هو الرابط العلمي بين الشعر الرمادي (الشيب) والضغط العصبي؟
ترجمة: سارة الدنيا
تدقيق: عبد الله كريم
مراجعة: آية فحماوي