إن الأرض تعج بأشكال الحياة ، والذي يجعل هذا ممكنًا هو الماء. ولكن في أماكن أخرى من الكون، يمكن بناء الحياة من مواد كيميائية مختلفة تذوب وتتجمع في سائل آخر، ربما الميثان أو الكيروسين أو حتى الكلوروفورم. في الوقت الحالي، ليس من الممكن للبشر أن يهبطوا على هذه العوالم وأن يروا ما هو موجود، لكن الباحثين يستكشفون بعض الاحتمالات في المختبرات هنا على الأرض.
إن فكرة وجود شكل غريب للحياة مواز لشكل الحياة التي نعرفها، أي تقوم خلاياه بنفس الأشياء الأساسية التي تقوم بها خلايانا ولكن باستخدام كيمياء مختلفة تمامًا، ليست جديدةً على العلم. طرح إسحاق عظيموف هذا الموضوع لأول مرة في مقالته عام 1962 والمسماة “Not as We Know It: The Chemistry of Life”. وفي عام 2004، اقترح عالم الكيمياء الحيوية ستيفن بينر في ورقة نشرها، أنه في مكان مثل قمر زحل تايتن، قد تستخدم الحياة الهيدروكربونات السائلة كمذيب (سائل يمكنه إذابة مواد أخرى)، بنفس طريقة استخدام الماء على الأرض.
مع انضمام كواكب جديدة إلى قائمة العوالم المعروفة كل يوم، من المحتمل أن يكون لبعضها محيطات (أو على الأقل بقع دافئة) من الهكسان، أو الإيثر، أو الكلوروفورم، أو سوائل غريبة أخرى قد تكون بمثابة أساس للحياة.
في مثل هذه المحيطات الفضائية، لن تعمل كيمياء الحياة بطريقة مشابهة لتلك التي على الأرض. الماء جزيء قطبي، إذ يكون الأوكسجين ذو شحنة سلبية طفيفة، في حين أن الهيدروجين لديه شحنة موجبة طفيفة. هذه الشحنات تؤثر على أنواع الروابط الكيميائية التي يمكن أن تحدث في الماء. يعتمد هيكل الجزيئات مثل الحمض النووي والبروتينات على الروابط الهيدروجينية القطبية للمياه.
معظم الهيدروكربونات (المركبات المصنوعة من الهيدروجين والكربون، مثل الميثان والإيثان) غير قطبية، أي لا توجد شحنات في أي من طرفي الجزيء. لذا من المستحيل تكوين نفس أنواع الروابط التي تتكون في الماء في هذه المواد الكيميائية. لهذا السبب، إذا كنت تريد إنشاء الحياة في بحيرات الميثان في تايتن، فيجب أن تستخدم مجموعةً مختلفةً بالكامل من وحدات البناء.
قام الكيميائيون وعلماء الأحياء من جميع أنحاء الولايات المتحدة بقيادة الكيميائي العضوي بول براشر من جامعة سانت لويس وبتمويل من مؤسسة العلوم الوطنية بتشكيل فريق لاستكشاف ما الذي يمكن أن تكون وحدات بناء الحياة الفضائية مصنوعةً منه. باستخدام المحاكاة الحاسوبية والعمل المخبري، يقوم العلماء باستكشاف كيفية ارتباط الجزيئات بالهيدروكربونات السائلة مثل الهكسان والإيثر والكلوروفورم. يقع عملهم على الحد الفاصل بين العلوم، إذ تصبح الكيمياء بيولوجيا.
يقول كريس بوتش من معهد علوم الحياة الأرضية: «إن الأمر أشبه بمحاولة إنشاء سيارة في الفناء الخلفي باستخدام أجزاء من جزازة العشب، مقابل قيام مصنع مازيراتي ببناء سيارة فائقة. الحياة كما نعرفها هي المازيراتي، ونحن نحاول أن نبني شيئًا يبدو مثلها من مجموعة مختلفة من الأجزاء، لنرى ما يمكن أن نتعلمه». سيستخدم بوتش، وهو كيميائي حاسوبي، المحاكاة الرقمية للمساعدة في فهم تفاصيل الكيمياء التي يشاهدها زملاؤه في المختبر.
تخيل بحرًا فضائيًا، حيث تطفو قطرات من الهيدروكربونات معلقةً في الماء. تقول عالمة الكيمياء الحيوية في جامعة ولاية كونيكتيكت، سارة مورر: «طالما أن هناك أمواج تصدم على شاطئ أو نوع ما من الطقس، فعندئذ إذا كان الزيت يطفو في الأعلى، فيختلط باستمرار بالماء على شكل قطيرات».
إذا كنت تريد إنشاء الحياة، يجب أن تجد طريقة لتجري كل العمليات الكيميائية التي تحدث في الخلية وتفصلها عن البيئة الخارجية. تقوم الأغشية الخلوية ذات القوام الزيتي في خلايا كل كائن حي على الأرض بهذا الفصل. تلعب الأغشية دورًا هامًا في وظائف الخلية، إذ تشارك في التفاعلات الكيميائية التي تسمح للخلايا النباتية والحيوانية بإنتاج الطاقة. وتلك التفاعلات الكيميائية تعتمد على الحقيقة الأساسية بأن الغشاء عبارة عن بنية دهنية تتفاعل مع داخل خلوي ذي قوام مائي.
لكن الفريق لن يستخدم الميثان أو الإيثان، وهي الهيدروكربونات السائلة التي تملأ بحيرات تيتان، في تجاربه. هذه المواد تكون بشكل سائل فقط عندما تتعرض لدرجات حرارة باردة بشكل لا يصدق مثل تلك الموجودة على سطح تايتن، وليست تلك الموجودة عادةً في مختبرات الكيمياء على الأرض. وبدلًا من ذلك، سيستخدم الباحثون هيدروكربونات مثل الهكسان، وهو مناظر جيد للميثان ولكنه يبقى في صورة سائلة في درجة حرارة الغرفة، فضلًا عن الكلوروفورم وغيره. تمثل حدود هذه القطيرات -حيث يلتقي الزيت بالماء- كنظير بسيط للتطور المبكر لأغشية الخلايا.
لن تقدم تجارب مورر أي شيء يمكنك وصفه بغشاء خلوي، ولكنها قد تلقي بعض الضوء على الكيمياء الأساسية التي يمكن أن تحدث على حدود الزيت والماء.
تقول مورر: «نحن بحاجة إلى هذا الطور الزيتي في خلايانا من أجل توليد الطاقة وبالتالي من المنطقي أن نتمكن -بطريقة ما- من جعل قطيرة الزيت تتمتع بوظائف مشابهة للخلية المائية باستخدام سطحها كمحفز للتفاعلات».
هذا الفريق ليس أول من يفكر بأغشية الخلايا الفضائية. ففي دراسة علمية أجريت في 2015، قام عالم الكواكب جوناثان لونين من جامعة كورنيل بالعمل مع اثنين من المهندسين الكيميائيين، باستخدام النمذجة الرقمية ليستنتجوا أن سيانيد الفينيل -وهو مركب مصنوع من النيتروجين والكربون والهيدروجين ويعرف أيضا باسم أكريلونيتريل- يمكن أن يشكل نظريًا حواجز بدائيةً في الميثان.
يقول لونين: «ستكون تسمية غشاء مبالغةً، ولكنه على الأقل شيء يستطيع الإحاطة والتغليف وقد يخلق شيئًا يشبه الحاوية». في عام 2016، قام هو والكيميائي مارتن رام -الذي كان يعمل في جامعة كورنيل، وحاليًا في جامعة تشالمرز للتكنولوجيا- بتصميم نماذج من سيانيد الهيدروجين رقميًا، موضحًا أنها يمكن أن ترتبط ببعضها البعض لتشكيل صفائح ولفائف في بحر هيدروكربوني محاكٍ. ثم في عام 2017، أعلنت دراسة أخرى عن اكتشاف أدلة على وجود سيانيد الفينيل على تايتن، ما يمثل خطوةً إلى الأمام في البحث عن جزيئات قادرة على دعم الحياة على هذا القمر.
نعود مرةً أخرى على الأرض لتجربة مورر البسيطة. تريد هي وزملاؤها معرفة ما إذا كان بإمكانهم جعل المركبات تعبر الحد بين الزيت والمياه. سيبدؤون بالحمض النووي والجزيئات الوراثية المألوفة والتي ستحتاج بعض المساعدة في العبور. العمود الفقري للأحماض النووية مثل DNA و RNA هي سلسلة من جزيئات أصغر تسمى الفوسفات، والتي لها شحنة سالبة طفيفة. لكن الجزيئات ذات الشحنة السالبة لها قدرة أقل للتفاعل مع الزيت مقارنةً مع الماء، لذلك قد لا تنتقل هذه الجزيئات الوراثية المألوفة إلى قطرات الزيت بسهولة.
ولكن، قد تقترن جزيئات أخرى بالأحماض النووية وتساعدها على العبور عبر الحد. طوّرت شركات الكيمياء الحيوية جزيئات تسمى عوامل النقل، والتي تساعد على نقل الأحماض النووية من خلال الأغشية، وأحد أهداف الفريق هو البحث عن توليفات من الحمض النووي وعوامل النقل يمكنها أن تهاجر إلى قطرات الهيدروكربون وتبقى مستقرة.
كما يريد الفريق أيضًا استبدال الفوسفور النووي للأحماض النووية بالسيليكون، ما سيخلق جزيئًا يذوب بسهولة أكبر في الهيدروكربونات.
كما تعمل مجموعة براشر في جامعة سانت لويس على جزيء اصطناعي بالكامل يعمل مثل الحمض النووي(DNA)، ولكنه مصنوع من جزيئات مختلفة تمامًا تشكل نوعًا مختلفًا من الروابط الكيميائية. فبدلًا من الروابط الهيدروجينية التي تربط بين أزواج قاعدة الحمض النووي، ستستخدم نسخة الفريق أزواجًا قاعديةً تشترك في جزيئات تسمى تيوأستر.
هناك سبب للاعتقاد بأن هذا قد ينجح. ففي عام 2015، قام بينر -الذي أسس مؤسسة التطور الجزيئي التطبيقي في عام 2001- باختبار نسخة من الحمض النووي ذات العمود الفقري من الإيثر في مذيب الكيروسين. ووجد أن هذا المزيج لن ينجح في تشكيل الحياة في مكان بارد تقريبًا مثل تيتان، ولكن على بعض المناطق المعروفة باسم “تيتان الدافئ”، قد يكون خيارًا جيدًا.
يقول براشر: «إذا أخذنا بعين الاعتبار عدد الكواكب الخارجية التي عثرنا عليها حول النجوم البعيدة، فستكون هناك عوالم أخرى مثل تايتن، من الممكن أن يحدث عليها شيء مثير للاهتمام».
من هنا، تتمثل إحدى الخطوات التالية في معرفة كيف يمكن للبنات بناء الحياة الفضائية أن تتطور. تخضع الكيمياء للاصطفاء الطبيعي، إذ تكون الأنظمة والبنى الأفضل في تكرار نفسها متفوقةً على الأخرى. قد تكون هذه العملية هي الطريقة التي تتطور الأنظمة الجزيئية من خلالها نحو تعقيد أكبر، ما يؤدي في النهاية إلى إنتاج الأنظمة المتخصصة من الجزيئات والتفاعلات التي تشكل الخلايا.
يخطط مايكل ترافيان -وهو عالم أحياء تطوري لديه خلفية في الفيزياء الفلكية- لمحاكاة هذه العملية في مجموعة الجزيئات التابعة للفريق. في هذه الحالة، سوف يعتمد الاصطفاء على ما إذا كان الجزيء -أو مجموعة من الجزيئات- يمكنه التحرك ذهابًا وإيابًا عبر الحاجز بين الزيت والماء. النتائج سوف تخبر الفريق أي نوع من الهياكل الجزيئية هي الأنسب.
تهتم مورر بما إذا كانت الجزيئات قادرةً على القيام بالتفاعلات الكيميائية الأساسية داخل قطرات الهيدروكربون. فالأزواج الأساسية في الحمض النووي على سبيل المثال “تتعرف” على بعضها البعض من خلال إيجاد الأساس الآزوتي “المناسب” لتشكيل رابطة، إذ يرتبط الأدينين إلى الثايمين والسيتوزين إلى الجوانين. إذا كانت النسخ البديلة من تلك الجزيئات تستطيع التعرف على بعضها البعض وتشكل روابط في مذيبات أخرى، فهذه علامة مشجعة على أن الكيمياء الحيوية الأساسية يمكن أن تكون ممكنةً في البحار الفضائية.
بالطبع، فإن مثل هذا النظام لا يقترب حتى من كونه خليةً، ولا يزال يفتقد بعض اللبنات الأساسية للحياة. في الخلايا على الأرض، تساعد بروتينات تسمى الإنزيمات على إجراء التفاعلات بسرعة كافية لتكون مفيدةً. لا يمتلك الفريق إنزيمات بديلةً لتتوافق مع الأغشية والمواد الوراثية التي يدرسها.
البحث عن حياة فضائية:
يقول براشر: «لا أعتقد أننا سنكتشف أصل الحياة في السنوات الثلاث المقبلة أو أننا سنكتشف بالضبط كيف يمكن أن تتطور الحياة [على عوالم أخرى] في المذيبات غير القطبية». كما يضيف براشر: «ما يدور حوله هذا المشروع هو اكتشاف كيف يمكن أن تتغير قواعد اللعبة بالانتقال من الحياة كما نعرفها في الماء إلى شكل جديد من الحياة في المذيبات الزيتية وغير القطبية، سواء هنا على الأرض أو على كواكب بعيدة».
إن ما يخبرنا به هذا، كما يأمل براشر وزملاؤه، هو ما إذا كانت بوادر الكيمياء الحيوية قد تكون قادرةً على النشوء في محيط مصنوع من شيء آخر غير الماء. إذا كانت الإجابة “نعم”، فهذا يعني أن بحثنا الحالي عن الحياة لديه نقطة عمياء ضخمة.
كما يقول ويليامز: «مشكلتنا في البحث عن الحياة هي أننا نبحث عن حياتنا، بمتابعة الماء قد نجد شكلًا من الحياة، لكننا قد لا نجد أنواعًا أخرى منها. من خلال إثبات أن الكيمياء الحيوية الأساسية يمكنها أن تنشأ في سوائل أخرى، قد يساعد الفريق في طرح مناطق بحث جديدة، أو على الأقل الاحتفاظ ببعض الأماكن المثيرة للاهتمام من الاستبعاد».
كما لا تقتصر الفائدة في معرفة أين يجب أن نبحث، إذ يمكن أن تقدم النتائج أفكارًا مفيدةً حول كيفية البحث عن الحياة. على سبيل المثال، الغلاف الجوي للأرض غني بالأكسجين لأن النباتات والبكتيريا الزرقاء تطلقه كناتج لعملية التمثيل الضوئي. إذا استطاع براشر وفريقه تحديد كتل البناء الجزيئية المحتملة للخلايا الفضائية، قد يتمكنوا أيضًا من التنبؤ بالمواد الكيميائية التي قد تتنفسها تلك الخلايا في جو عالمهم الأم.
توصل عالم الأحياء الفلكية كريس ماكاي في عام 2005 إلى الآلية التي قد تساعد الكائنات الحية على تيتان على استقلاب الأسيتيلين أو الإيثان، وأدرك أنها ستترك بصمةً ملحوظةً في الغلاف الجوي لتيتان، والتي تبين أنها قد تكون موجودةً بالفعل، على الرغم من أنه ليس واضحًا حتى الآن. إذ لاحظ المسباران (Cassini و Huygens) عدم وجود طبقة إيثان حول هذا القمر ونقص الأسيتيلين على سطحه. رغم أن كلا هذين الشيئين متوقعان، ويمكن أن يكون سبب استنفاد هذه المواد هو “حوض بيولوجي”، حياة تستهلكها وتؤدي إلى غيابها.
اقرأ أيضًا:
- محاكاة الظروف البدائية للأرض في المختبر تنتج شرارة الحياة الأولى
- شرارة الحياة تظهر في المختبر لأول مرة
- قد يكون هذا العنصر المفقود لنشأة الحياة
اسم المترجم: مهران يوسف.
تدقيق: حسام التهامي.