يمارس العلماء ما يشبه صيد الأشباح عند البحث عن المادة المظلمة dark matter، لأنها مادة غير مرئية مباشرةً، لكنها تُشكّل معظم الكتلة في الكون والهياكل البنائية للمجرات، وتعد جاذبيتها بمثابة مادة لاصقة تمسك المجرات والعناقيد المجرية ببعضها، ويرصد العلماء وجودها رصدًا غير مباشر عبر قياس تأثير جاذبيتها على النجوم والمجرات.
لا تتكون المادة المظلمة من نفس المكونات التي تشكل النجوم والكواكب والناس، فالمادة الطبيعية أو الباريونية baryonic تتكون من إلكترونات وبروتونات ونيوترونات، أما المادة المظلمة فربما تتكون من جسيمات تحت ذرية مجهولة تتفاعل تفاعلًا ضعيفًا مع المادة الطبيعية.
تقترح نظرية شهيرة أن جسيمات المادة المظلمة لا تتحرك بسرعة ما يسهل تكتلها، ووفق هذه الفكرة يحتوي الكون على تركيزات مختلفة من المادة المظلمة، صغيرةً وكبيرة.
رصد العلماء كتلًا من المادة المظلمة حول المجرات الكبيرة والمتوسطة، والآن باستخدام تلسكوب هابل، وعبر تقنية جديدة للرصد، وجد علماء الفلك أنها تشكل كتلًا أصغر بكثير مما هو معروف سابقًا.
بحث العلماء عن التركيزات الصغيرة من المادة المظلمة في بيانات تلسكوب هابل، عبر قياس تأثر الضوء القادم من كوازار بعيد في رحلته عبر الفضاء، الكوازارات quasars هي أنوية ساطعة في مجرات بعيدة للغاية تغذيها الثقوب السوداء. تُظهر بيانات هابل أن صور هذه الكوازارات مُشوهة ومُضخمة نتيجة تأثير الكتل الهائلة للمجرات التي تعترض طريق الضوء، فيما يُسمى تأثير عدسة الجاذبية gravitational lensing، استخدم العلماء التأثير العدسي لرصد كتل المادة المظلمة التي تقع على طول خط رؤية التلسكوب للكوازار، وأيضًا داخل المجرات المسببة للتأثير العدسي وحولها.
اكتشف العلماء كتلًا صغيرة من المادة المظلمة بدرجة غير مسبوقة، باستخدام تلسكوب هابل وتقنية رصد جديدة، وتؤكد هذه النتائج إحدى النظريات الرئيسية المتفق عليها على نطاق واسع، وهي نظرية المادة المظلمة الباردة cold dark matter.
وفقًا لهذه النظرية فإن كل المجرات متضّمنة داخل غيوم من المادة المظلمة، التي بدورها تتكون من جسيمات باردة (بطيئة الحركة) تتجمع لتشكل بُنى تتراوح أحجامها بين مئات آلاف ضعف كتلة درب التبانة وما لا يزيد عن حجم طائرة تجارية.
أثمرت ملاحظات هابل رؤى جديدة حول طبيعة المادة المُظلمة وسلوكها. يقول عضو فريق المراقبة توماسو تريو Tommaso Treu من جامعة UCLA: »أجرينا اختبار ملاحظة مقنع للغاية لنموذج المادة المُظلمة الباردة، وحققنا نجاحًا كبيرًا«.
إن المادة المظلمة هي مادة غير مرئية مباشرةً، لكنها تشكّل معظم الكتلة في الكون، وهي الهيكل الذي تبنى عليه المجرات، ورغم عدم قدرة علماء الفلك على رؤيتها، يمكن رصدها عبر قياس تأثيرها على النجوم والمجرات، لكن يصعب رصد تشكلاتها الصغيرة عبر البحث عما تحتويه من النجوم، لأنها تحتوي عددًا قليلًا جدًّا من النجوم.
رُصد سابقًا تركيزات من المادة المظلمة حول المجرات الكبيرة والمتوسطة، لكن لم يُعثر على تشكلات أصغر حتى الآن، ونتيجةً لغياب الأدلة على وجود مثل هذه التجمعات صغيرة، طور فريق من العلماء نظريةً بديلة هي نظرية المادة المُظلمة الدافئة warm dark matter، التي تقترح أن جسيمات المادة المُظلمة سريعة الحركة، تندفع بسرعة لتندمج وتشكل تجمعات أصغر، لكن الملاحظات الجديدة تدحض هذا السيناريو وتقترح أنها أبرد مما تقترح هذه النظرية.
قالت آنا نيرينبرج Anna Nierenberg من مختبر الدفع النفاث التابع لناسا في باسادينا- كاليفورنيا: «المادة المظلمة أبرد مما نعرف على المقاييس الأصغر، وقد نفذ العلماء اختبارات أخرى على النظريات السابقة، لكن ملاحظاتنا تقدم الدليل الأقوى حتى الآن على وجود كتل صغيرة من المادة المظلمة، وبدمج التوقعات النظرية مع الأدوات الإحصائية وملاحظات تلسكوب هابل الأخيرة، أصبح لدينا نتائج أدق كثيرًا مما كان مُتاحًا سابقًا».
مثَّل البحث عن تركيزات المادة المظلمة المجردة من النجوم تحدّيًا كبيرا، واستخدم فريق تلسكوب هابل تقنية لا يحتاجون فيها إلى البحث عن أثر جاذبية النجوم التابعة للمادة المظلمة، فوجهوا جهودهم نحو 8 من المصابيح الكونية القوية البعيدة، المعروفة بالكوازارات (وهي المناطق المحيطة بالثقوب السوداء النشطة وتنبعث منها كميات هائلة من الضوء) وقاسوا تشوه الضوء المنبعث من غازي الأكسجين والنيون المحيطين بهذه الثقوب السوداء، نتيجةً لتأثير جاذبية مجرة هائلة الكتلة تعمل عدسةً مكبرة.
باستخدام هذا المنهج، اكتشف الفريق كتلًا من المادة المظلمة على طول خط رؤية التلسكوب إلى الكوازارات، وأيضًا داخل المجرات المسببة للتأثير العدسي وحولها، وتراوح تركيز هذه التكتلات بين 1/10 آلاف و1/100 ألف من كتلة هالة المادة المظلمة حول درب التبانة، لا تحتوي أغلب هذه التجمعات على مجرّات صغيرة، لذا كان من المستحيل رصدها بالمنهج التقليدي أي بالبحث عن نجوم مُحتواة.
كانت الكوازارات الثمانية متراصةً بدقة أدت إلى أن التشوه أو التأثير العدسي أنتج أربع صور منحرفة لكل كوازار، ويُعَد هذا النوع من الصور نادرًا بسبب التراص الدقيق المطلوب بين المجرة والكوازار، وقد احتاج الباحثون على كل حال إلى صور متعددة لإجراء تحليل أكثر تفصيلًا.
يشوّه وجود المادة المظلمة السطوع الظاهر وموضع كل صورة، إذ يسبب انحناء الضوء في أثناء انتقاله من الكوازار إلى الأرض. قارن العلماء هذه القياسات مع توقعات كيفية ظهور الصور دون هذا التأثير، واستخدموها لحساب كثافة هذه الكتل الصغيرة، ومن ثمّ طوّروا برامج حوسبة معقدة وتقنيات إعادة بناء دقيقة لتحليل البيانات.
أوضح عضو الفريق دانييل جيلمان Daniel Gilman من جامعة UCLA: »تخيل لو أن كل واحدة من المجرات الثماني هي عدسة مكبرة عملاقة، وأن كتل المادة المظلمة هي شقوق صغيرة في هذه العدسات، سيتغير السطوع وموضع الصور الأربعة مقارنةً بالمُتوقَّع لو كان الزجاج أملس«.
استخدم الباحثون كاميرا Hubble’s Wide Field 3 لالتقاط الضوء القريب من الأشعة تحت الحمراء القادم من كل كوازار، وتوزيعه إلى الألوان المكوِّنة لتحليله طيفيًّا. إن رصد الانبعاثات الفريدة من كوازارات الخلفية يكون أفضل في ضوء الأشعة تحت الحمراء.
أوضح عضو الفريق سيمون بيرر Simon Birrer: »تساعدنا ملاحظات هابل على إجراء قياسات ليست متوفرة عبر التلسكوبات الأرضية الأقل دقة، إضافةً إلى أن جو الأرض معتم للأشعة تحت الحمراء التي نحتاج إلى مراقبتها. من المذهل أن تلسكوب هابل ما زال قادرًا بعد 30 عامًا على الرصد المتطور فيما يتعلق بالفيزياء الأساسية وطبيعة الكون، بدرجة لم نتوقعها حتى عند إطلاقه«.
اكتُشفت عدسات الجاذبية بعد فحص الدراسات الاستقصائية أرضية المنشأ، كدراسة سلون Sloan الرقمية للسماء، ودراسة الطاقة المظلمة التي تقدم الخرائط ثلاثية الأبعاد الأكثر تفصيلًا على الإطلاق للكون. حُددت الكوازارات على بعد 10 مليارات سنة ضوئية عن الأرض، والمجرات في المقدمة على بعد ملياري سنة ضوئية.
يقدم عدد البُنى الصغيرة التي رصدتها الدراسة أدلةً أكثر على طبيعة المادة المظلمة. توضح نيرينبرج: »تؤثر خصائص جسيمات المادة المُظلمة في عدد الكتل المتشكلة، ما يعني أنه يمكننا تعلم المزيد حول فيزياء جسيمات المادة المُظلمة عبر حساب عدد الكتل الصغيرة«.
لكن نوع الجسيم الذي يشكل المادة المظلمة ما زال لغزًا، يقول بيرر: »لا يوجد دليل معملي مباشر حتى الآن على وجود جسيمات المادة المظلمة، ولن يعترف علماء الجسيمات بوجودها ما لم ننجح -نحن الفلكيين- في إثبات وجودها بناءً على رصد تأثيراتها، لكننا ما زلنا نتساءل عن كيفية ضبطها لشكل الكون، وعلى أي مقاييس؟«.
سيتكمن العلماء من دراسة المادة المظلمة ومتابعتها باستخدام تلسكوبات ناسا المستقبلية، كتلسكوب جيمس ويب James Webb الفضائي وتلسكوب المسح الميداني للأشعة تحت الحمراء WFIRST، سيمكن بذلك رصد الكوازارات بتقنية العدسة الرباعية بكفاءة، وستساعد دقة المشاهدة العلماء على رصد مساحات الفضاء المتأثرة بنطاق الجاذبية الهائل للمجرات الضخمة وعناقيد المجرات، ما سيساعد على الكشف عن العديد من هذه الأنظمة النادرة.
اقرأ أيضًا:
ما هي النجوم الزائفة أو الكوازرات ؟
ترجمة: أسامة ونوس
تدقيق: عبد الله كريم
مراجعة: أكرم محيي الدين