توجد في الطبيعة أربع قوى أساسية، ثلاث منها تفوق في مقدارها قوى الجاذبية بمراحل عديدة، لكن على المقاييس الكونية لا تستطيع تلك القوى منافسة الجاذبية، فالجاذبية وحدها تصنع الفارق. يستطيع الإلكترون إلغاء شحنة البروتون ما يؤدي إلى كون متعادل كهربيًّا، أما القوى النووية فهي قصيرة المدى ولا يتعدى تأثيرها نواة الذرة. يتمدد الكون بمعدل ثابت عبر الزمن لسببين: قوانين الجاذبية وأشكال الطاقة المختلفة في الكون، إذا اختلف أي عامل عما هو عليه فلن يكون وجودنا ممكنًا، وإليك السبب.
تخيل أنك صادفت قمةً صخرية طويلة مستدقة، لو كان بإمكانك وضع صخرة أخرى ضخمة على تلك القمة فمن المتوقع أنها ستسقط أو تتدحرج لتستقر في قاع الوادي، ومن غير المتوقَّع أن تستقر الصخرة الجديدة على القمة في حالة اتزان دائم، لكن من حين إلى آخر تفاجئنا الطبيعة بحالات مشابهة لتلك الصخرة المستقرة على القمة في حالة توازن غير مستقر، أو بعبارة أخرى في حالة ضبط دقيق fine-tuning.
لتوضيح فكرة الضبط الدقيق، تخيل معي التجربة التالية:
عليك أن تختار سرًّا رقمًا عشوائيًّا بين واحد ومليون، وسأفعل المثل، ثم سأفصح عن رقمي وأطرحه من رقمك، ونقارن ناتج عملية الطرح بالنتيجة المتوقَعة.
عند طرح الرقم الذي اخترته أنا -وليكن 651229- من الرقم الذي اخترته أنت -مهما كان- فمن الممكن توقع الآتي:
- احتمالية جيدة أن يكون ناتج طرح الرقمين مكونًا من ست خانات.
- احتمالية فوق المتوسطة أن يكون الناتج رقمًا سالبًا، واحتمالية تقترب من الثلث أن نحصل على رقم موجب.
- احتمالية ضئيلة للغاية أن يكون الناتج رقمًا من ثلاث خانات أو أقل.
- أما إن تطابقت الأرقام التي اخترناها فمن شبه المؤكد وجود سبب لذلك، مثل امتلاكك قوى نفسية خارقة، أو أنك قرأت هذه المقالة من قبل، أو أنك اختلست النظر إلى رقمي.
إذا كان الفرق بين الرقمين صغيرًا جدًّا فذاك مثال للضبط الدقيق، من الممكن أن تكون مصادفةً نادرةً وغير محتملة، لكن الاحتمال الأرجح هو وجود سبب لحدوث ذلك.
لنعد إلى الكون المتمدد الذي يظهر إنه مضبوط بدقة، من ناحية لدينا معدل التمدد الابتدائي بعد الانفجار العظيم، من ناحية أخرى لدينا مجموع كل أشكال المادة والطاقة:
- الإشعاع.
- النيوترونات.
- المادة العادية.
- المادة المظلمة.
- الطاقة المظلمة.
- المادة المضادة.
تتحدث نظرية أينشتاين النسبية عن علاقة معقدة بين معدل التمدد ومجموع أشكال الطاقة فيه، فلو عرفت مم تشكل الكون ومدى سرعة تمدده المبدئي، تستطيع التنبؤ بكيفية تطوره عبر الزمن، وبمصيره النهائي أيضًا.
إذا كانت كمية المادة والطاقة كبيرةً لأدى ذلك إلى انهيار الكون في وقت قصير، وإذا كانت قليلةً لتمدَّد الكون إلى درجة تجعل تشكُّل الذرات مستحيلًا.
إليك المفاجأة، كوننا لم ينهر، ولم يفشل في تشكيل الذرات، وما زال حتى اليوم -بعد مرور 13.8 بليون سنة من الانفجار العظيم- محافظًا على توازن جانبي المعادلة.
بالرجوع في الزمن إلى لحظة البداية، نانو ثانية واحدة بعد الانفجار العظيم، سنجد إنه من الضروري، ليس فقط أن يتوازن جانبي المعادلة، لكن أن يتعادلا إلى درجة دقة غير عادية تصل إلى عشرين خانة عشرية، يشبه ذلك تكرار نجاح تجربة الأرقام التي شرحناها آنفًا 3 مرات متتالية، أوالنجاح في تخمين وجه العملة 16 مرةً متتالية.
لو وضعنا في الحسبان كل الاحتمالات العشوائية التي يمكن تخيلها، فإن إمكانية حدوث ذلك طبيعيًّا لا تكاد تذكر.
من الممكن بالطبع أن يكون الكون وُلد بهذا التوازن المدهش بين كل المكونات فيه وبين معدل التمدد الابتدائي، وقد تكون رؤيتنا للكون بهذه الطريقة اليوم بسبب أن ذلك التوازن وُجد بالفعل، ولكن ستكون تلك رؤية سطحية، ففي العلم، عندما نواجه حادثةً لا نستطيع تفسيرها بسهولة وننجح في إلقاء اللوم على الظروف المبدئية لنظامنا الفيزيائي، فكأننا نعترف بعدم جدوى العلم. التصرف الصحيح من وجهة نظر علمية أن نحاول تفسير هذه الظاهرة.
أحد الاختيارات- ربما أسوأها من وجهة نظر الكاتب- أن نفترض وجود عدد لا نهائي من النتائج المحتملة، وعدد لا نهائي من الأكوان المحتملة التي تحتوي على تلك النتائج، ولن يكون وجودنا ممكنًا إلا بوجود هذه الأكوان المحتملة، ومن ثم ليس غريبًا أن نوجد في الكون الذي يمتلك خصائص يمكننا ملاحظتها. لكن يبدو هذا نوعًا من الاستدلال الدائري circular reasoning، وبذلك يمكن الرد على دعاة المبدأ الإنساني anthropic principle، الذي يفترض وجود عدد لا نهائي من الأكوان المتعددة، لكنه لا يقدم تفسيرًا علميًّا لظاهرة الضبط الدقيق.
مع ذلك، من الممكن تفسير الأمر علميًّا كالتالي:
- ربما تقدم أطروحة الأكوان المتعددة آليةً لخلق الظروف التي تبدو لنا مضبوطةً بدقة.
- ستضيف تلك الآلية توقعات إضافية قابلة للاختبار، في مواجهة التوقعات الأخرى الناتجة عن عدم وجود آلية من الأساس.
يُعَد الشرط الثاني ما يميز الحجة العلمية عن غير العلمية، فإذا كان كل ما لديك هو احتجاج بالظروف الابتدائية للمشكلة، فلن يكون لديك وسيلة لاختبار صحة فرضيتك. ربما توجد أكوان أخرى، لكن إن لم تتمكن من ملاحظتها ولا تستطيع إثبات امتلاكها نفس الظروف الأولية لكوننا، فلن نستطيع تمحيص تلك النظرية علميًّا. لكن لو افترضنا وجود مرحلة تسبق وجود الكون خَلقت تلك الظروف، إضافةً إلى بعض المحددات الأولية، عندها قد نستطيع تمحيص الدليل علميًّا.
في حالة اتزان الطاقة في الكون، إذ يتعادل معدل التمدد مع كمية الطاقة الكلية بالكامل، تظهر فكرة التضخم الكونيcosmic inflation باعتبارها مرشحًا نظريًّا ممتازًا، وفيها يسبب التضخم تمدد الكون سطحيًّا، منتجًا طاقة كثافتها تعادل معدل التمدد، وعند انتهاء التضخم يعود الكون إلى ظروف الانفجار العظيم. أيضًا يصنع التمدد تنبؤات إضافية يمكن اختبارها وملاحظتها علميًّا.
عند مصادفة ظاهرة غير مفسرة تتطابق فيها كميتان فيزيائيتان، فعلينا البحث عن تفسير، قد يكون الناتج حقًّا مجرد صدفة، لكن لا يجب التسليم بتلك النتيجة فقط لأننا لا نستطيع الوصول إلى تفسير علمي.
حقيقة أن كوننا لديه ذلك التوازن الممتاز بين معدل التمدد وكمية الطاقة عبر بلايين السنين، تدل على أنه مضبوط بدقة. باستخدام تنبؤات متماسكة عن الطيف والإنتروبي والحرارة وخصائص أخرى للتقلبات الكمية التي تنشأ في سيناريوهات التضخم، والتحقق من ذلك عبر قياس إشعاع الخلفية الكوني الدقيق وبنية الكون الواسعة، نستطيع أن نصيغ حلًّا، ولكن يلزمنا العديد من الاختبارات لمعرفة ما إذا كان أفضل استنتاج حاليًا يقدم الإجابة النهائية أم لا، وفي كل الأحوال ليس الحل أن ندير ظهورنا للمشكلة ونتظاهر بعدم وجودها، فالكون مضبوط بدقة ووجودنا هو الدليل.
اقرأ أيضًا:
هل كوننا أنثروبي؟ هل صُمِّمَ الكون خصيصا لنا؟
التضخم الكوني – بقلم الدكتور سليم زاروبي
ترجمة: أحمد جمال
تدقيق: سلمى عفش
مراجعة: أكرم محيي الدين