يُشير مصطلح يوتوبيا، أو المدينة الفاضلة، إلى المكان الخيالي المثالي، أو المجتمع الذي يعيش أفراده حياةً مثالية. صاغ توماس مور مصطلح يوتوبيا من الكلمات اليونانية التي تعني «اللامكان»، اسمًا للدولة المثالية، في كتابه الذي نُشر في لوفاين عام 1516.
تدل العقيدة الطوباوية –اليوتوبيّة- على طرق التفكير والتصور ومحاولة الأفراد بناء المجتمع المثالي. إذ تتعامل تلك العقيدة –القائمة على الإيمان بقدرة العقل والمعرفة على إصلاح المجتمع- مع الأخلاق وعلم النفس والفلسفة السياسية. تؤدي النزعة الطوباوية دورًا مهمًا في تحفيز التغيير الاجتماعي والسياسي، وهي تتميز بالتفاؤل بشأن إمكانية تحقيق المجتمع المثالي.
قد تعني صفة يوتوبيا أحيانًا دلالةً سلبية، إذ تنتقد الأفكار التقدمية المفرطة في التفاؤل، أو غير الواقعية التي يستحيل تحقيقها. استُخدم مصطلح يوتوبيا أيضًا لوصف المجتمعات الواقعية القائمة على محاولات الأفراد بناء النظام الاقتصادي والسياسي المثالي. تقدم الأعمال الأدبية اليوتوبية العديدة أوصافًا تفصيليةً وعملية للمجتمع المثالي، مع أنها تتضمن عادةً بعض الأخطاء الفادحة التي قد تجعل تأسيس ذلك المجتمع مستحيلًا.
يوتوبيا وفقًا لمور
فيه روايته الخيالية يوتوبيا، نقابل الرحالة برتغالي رافايل هيثلودايوس، الذي ينتقد قوانين الدول الأوروبية وعاداتها، في حين يبدي إعجابه بالدولة المثالية التي قابلها خلال إقامته مدة خمس سنوات في جزيرة يوتوبيا.
يوتوبيا هي المجتمع المثالي، حيث قُضي على الفقر والبؤس. توجد بعض القوانين لكن دون الحاجة إلى محامين. المواطنون مسالمون وإن كانوا على استعداد للدفاع عن أنفسهم عند الضرورة. يتشارك المواطنون حيازة الممتلكات، ويتعلم كل منهم حرفة حتى لا توجد حاجة إلى ارتكاب جريمة. تُعد الزراعة علمًا يُدرس في المناهج الدراسية، ويقضي كل فرد جزءًا من حياته على الأقل مزارعًا. يعيش المواطنون في 45 مدينة، يفصل كل منها عن الأخرى نحو 40 كيلومترًا. يسكن الريفيون البيوت الجماعية المنتشرة في الريف، ويعملون ست ساعات فقط في اليوم، وذلك كاف لأنهم مجتهدون وليسوا بحاجة إلى إنتاج كماليات عديمة الفائدة.
يناقش مجلس من الحكماء والمثقفين الشؤون العامة، ويختار الشعب أميرًا يحكم البلاد مدى الحياة، لكنه يُقال من منصبه إذا أظهر الاستبداد. رغم التسامح الديني فإن الإلحاد ممنوع، لأن الإنسان إن لم يخش إلهًا فلن يردعه شيء عن ارتكاب الشرور، ما سيقوض المجتمع. قلّما ترسل يوتوبيا مواطنيها إلى الحرب، بل تستأجر مرتزقة من جيرانها المحاربين وترسلهم عمدًا إلى الخطر، على أمل القضاء تدريجيًا على السكان العدائيين في البلدان المجاورة.
نشر ايراسموس -صديق مور- يوتوبيا للمرة الأولى في لوفاين عام 1516، دون علم مور. لم يُنشر الكتاب في إنكلترا حتى عام 1551، بعد ستة عشر عامًا من إعدام مور بتهمة الخيانة.
مع أن بعض القراء اعتبروا يوتوبيا مخططًا واقعيًا لدولة عاملة، فالأرجح أن مور كان يقصد عملًا هجائيًا يلفت الانتباه إلى الانتهاكات السياسية والاجتماعية في أوروبا، في قالب خيالي ليتجنب عقاب الملك. تشبه يوتوبيا مور الأفكار التي طورها كارل ماركس لاحقًا، مع أن مور كان كاثوليكيًا متدينًا وربما استخدم الطائفة الرهبانية نموذجًا له. تُعد سياسة المدينة الفاضلة مؤثرةً في أفكار الأنابابتست (تجديدية العماد) والمورمونية والشيوعية. تُمكن رؤية مثال تطبيقي ليوتوبيا مور في مجتمع فاسكو دي كيروجا، الذي نفذه في ميتشواكان بالمكسيك، والذي يُعد مقتبسًا مباشرةً من فلسفة مور.
الطوباوية
وُلد الفكر الطوباوي من افتراض قدرة البشر على خلق المجتمع المثالي بواسطة العقل والذكاء، إذ يحقق كل فرد الإنجاز دون المساس بسعادة ورفاهية الآخرين. ويشمل التعامل مع الأخلاق وعلم النفس والفلسفة السياسية والاجتماعية. يقتصر الفكر الطوباوي غالبًا على الحياة المادية الأرضية، مع أنه قد يتطرق إلى التحضير للتعامل مع الحياة الأخرى. ويشمل باستمرار نقدًا لحالة المجتمع الراهنة، ويبحث عن طرق القضاء على الانتهاكات. تعاني الطوباوية حالة شد وجذب بين المبادئ الفلسفية والواقع الفعلي للمجتمع، متضمنًا الجرائم. أيضًا قد ينشأ تعارض بين احترام الحرية الفردية وبين أهمية حفظ النظام. أيضًا ينطوي الفكر الطوباوي على عملية إبداعية تتحدى القيم الموجودة، بدلًا من أيديولوجية أو محاولة للتوافق مع المعتقدات السائدة.
يتضمن اثنان من محاورات أفلاطون -الجمهورية والقانون- إحدى أقدم المحاولات لتحديد منظومة سياسية، تسمح لمواطنيها ليس بالعيش في وئام فحسب، بل توفر أيضًا التعليم والخبرة اللازمتين لتحقيق أقصى إمكانياتهم.
خلال القرن التاسع عشر، نشر هنري سانت سايمون وتشارلز فورييه وإتيان كابيه في فرنسا، وروبرت أوين في إنكلترا، فكرة إنشاء مجتمعات صغيرة تجريبية لوضع المبادئ الفلسفية موضع التطبيق. أدرك كارل ماركس وفريدريك إنجلز أن الطوباوية تقدم رؤيةً لمستقبل أفضل، وهي رؤية ساهمت في تأسيس مبادئ الماركسية. لكنهما انتقدا افتقار الكتّاب الطوباويين إلى الفهم الواسع للواقع السياسي والاجتماعي، الذي قد يساهم في التغيير الفعلي. فرّق هربرت ماركوس بين اليوتوبيا «المجردة» القائمة على الخيال والأحلام، وبين اليوتوبيا «الملموسة» القائمة على النظرية الاجتماعية النقدية.
تنشأ الطوباوية من القدرة الإبداعية للعقل الباطن، القادر على تجاوز الواقع الواعي من خلال استعراض الآمال والأحلام والرغبات. ومع أن الأفكار الطوباوية قد لا تتحقق بالكامل، فإنها تؤدي دورًا مهمًا في إحداث تغيير اجتماعي إيجابي، وتسمح للمفكرين بالابتعاد عن الواقع الحالي والتطلع إلى إمكانيات جديدة. إن التفاؤل بإمكانية بناء مجتمع أفضل يوفر الدافع ونقاط التفكير الأساسية للمشاركين لتحقيق التغيير الاجتماعي والسياسي. إن إلغاء العبودية وحركة حقوق المرأة والحقوق المدنية، ونظم الرعاية الاجتماعية للفقراء، والتعددية الثقافية، كلها تُعد أمثلةً لتطبيق الفكر الطوباوي في الحياة العملية.
اقرأ أيضًا:
كيف قاد نظام المحاسبة في بلاد الرافدين إلى اختراع أول كتابة في التاريخ؟
ترجمة: جوليت كاملة
تدقيق: محمد الشعراني
مراجعة: أكرم محيي الدين