تبدو الشمس من بعيد هادئة وجميلة خلال اليوم، لكنها تخفي وراء هذا الهدوء والجمال نشاطًا شمسيًا شرسًا وفوضويًا جدًا، بصورة تفوق توقعات علماء الفلك حتى العام الماضي.

قال أندرو جيرارد، مدير مركز أبحاث الشمس في معهد نيوجيرسي للتكنولوجيا: «توقعنا أن تكون الدورة الشمسية الحالية أقل نشاطًا، لكن أثبتت مشاهداتنا عكس ذلك، ما يشير إلى أن الشمس أنشط مما كان متوقعًا».

تحدث الدورات الشمسية عادةً كل 11 سنة، خلال هذه الفترة تتغير مستويات نشاط الشمس. في بداية الدورة، تكون الشمس في مرحلة من النشاط الأدنى تُعرف بالحد الأدنى الشمسي. ومع تقدم الدورة، تصبح الشمس أنشط، وتصل إلى ذروة النشاط في منتصف الدورة. تتزامن هذه الذروة مع انقلاب في الحقول المغناطيسية للشمس، إذ تتبادل الأقطاب المغناطيسية الشمالية والجنوبية مواقعها.

حدثت آخر دورة شمسية في الفترة بين عامي 2008 و2019، الآن نحن في منتصف الدورة الشمسية الحالية، في طريقنا لبلوغ المرحلة القصوى للنشاط المغناطيسي.

يُشكل النشاط المغناطيسي المتزايد عائقًا يمنع وصول الطاقة القادمة من أعماق الشمس إلى سطحها، وعندما تُعترض هذه الطاقة، تتشكل مناطق على سطح الشمس أبرد من المناطق المحيطة. تظهر هذه المناطق الأبرد على شكل بقع داكنة، تُعرف بالبقع الشمسية، وتمكن رؤيتها من الأرض.

يراقب العلماء نشاط الشمس بعدّ البقع الشمسية على سطحها، تُعد البقع الشمسية مؤشرًا مباشرًا على النشاط الشمسي، إذ يشير وجود عدد كبير من البقع إلى مستويات نشاط أعلى. العام الماضي بلغ عدد البقع الشمسية مستويات غير مسبوقة، ما يدل على أن الشمس أنشط مما هو متوقع في هذه الدورة الشمسية.

أفادت الإدارة الوطنية للمحيطات والغلاف الجوي بأنها رصدت تشكل 299 بقعة شمسية خلال 24 ساعة فقط. إذا تأكدت هذه المشاهدات، فسيكون هذا الحدث هو الأهم هذا العام، لأنه سيكون أعلى عدد من البقع الشمسية رُصد تشكلها منذ 22 عامًا، ويدل العدد الكبير للبقع الشمسية على نشاط غير مسبوق للشمس.

تُعد مهمة تتبع البقع الشمسية أمرًا ضروريًا للغاية، لأنها ببساطة مصدر حدوث الظواهر الشمسية القوية مثل الانفجارات الشمسية من الفئة (X)، وظواهر أخرى مثل الانبعاث الكتلي الإكليلي، التي بدورها تؤثر في الأرض سلبيًا، إذ قد تُسبب فشل الاتصالات الراديوية، وانقطاع شبكات التيار الكهربائي، وتعطيل نظام تحديد المواقع العالمي، وقد تؤدي إلى احتمالية خروج الأقمار الصناعية عن مداراتها.

قال أليكس جيمس، عالم الفيزياء الشمسية في كلية لندن: «لا تؤدي جميع البقع الشمسية إلى حدوث انفجار، وإذا حدث هذا الانفجار ليس من الضروري أن يشكل تهديدًا على الأرض، إذ قد يتجه بعيدًا عنها، ما يقلل من الأضرار التي قد تلحق بنا».
«تطوير قدرتنا على توقع العواصف الشمسية قبل حدوثها أمر أساسي، وهو قسم مستقل من أبحاثنا المستمرة بشأن العواصف الشمسية، إذ يمدنا توقع وقت حدوث العواصف الشمسية بالوقت الكافي لأخذ الحذر والاستعداد للتأثيرات المحتملة».

الشمس أنشط مما اعتقدنا

تُعد الانفجارات الشمسية من النمط (X)، والانبعاثات الكتلية الإكليلية ظواهر شمسية مذهلة، عند حدوثها قد ترسل جسيمات تسير بسرعات عالية للغاية في الفضاء. إذا وصلت هذه الجسيمات إلى الأرض، قد تسبب اضطرابات في المجال المغناطيسي للأرض والغلاف الجوي العلوي، ما يؤدي إلى عواصف جيومغناطيسية (عواصف مغناطيسية أرضية) قد تؤثر في التكنولوجيا وأنظمة الاتصال.

العواصف الجيومغناطيسية هي اضطرابات في المجال المغناطيسي للأرض ناتجة من نشاط شمسي مثل التوهجات الشمسية أو الانبعاثات الكتلية الإكليلية. عندما تحدث هذه العواصف، قد تنتج الشفق القطبي، وهي أضواء ساطعة وملونة في السماء. عادةً ما تُرصد قرب القطبين، لكن بسبب زيادة نشاط الشمس، أصبحت مرئية في أماكن أبعد تجاه الجنوب أكثر من المعتاد، مثل تكساس وكولورادو.

الجسيمات عالية الطاقة الناتجة من التوهجات الشمسية والانبعاثات الكتلية الإكليلية قد تتداخل مع الإشارات الراديوية عالية التردد. هذه الإشارات ضرورية لأنظمة الاتصالات التي تستخدمها القوات العسكرية وشركات الطيران ونظام تحديد المواقع العالمي. عندما تتفاعل هذه الجسيمات مع المجال المغناطيسي للأرض، قد تعطل هذه الإشارات، ما يسبب مشكلات كبيرة في التنقل والاتصالات.

قد تعطل هذه العواصف الاتصالات الراديوية، ما يؤدي إلى انقطاع الإرسال في مناطق واسعة. منذ يناير الماضي، تسببت هذه العواصف في انقطاع الإرسال الراديوي في أربع قارات، إذ أثرت في أنظمة الاتصالات في الأمريكتين وأوروبا وأفريقيا.

قد تعطل العواصف الجيومغناطيسية العديد من الأنظمة المعتمدة على الأقمار الصناعية والموجات وأنظمة الاتصالات، ما قد يسبب تعطل نظام تحديد المواقع العالمي، وانقطاع التيار الكهربائي، وقد تؤدي إلى تعطل الاتصالات الراديوية و الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، ما يدفع إدارة الطيران الفيدرالية إلى وقف جميع الرحلات الجوية.

تؤثر العواصف الجيومغناطيسية في المركبات الفضائية أيضًا، عندما تحدث إحدى العواصف الشمسية مثل القذف الكتلي الإكليلي، ترسل الشمس كمية كبيرة من الجسيمات المشحونة نحو الأرض، إذا وصلت هذه الجسيمات إلى الغلاف الجوي العلوي للأرض، قد تزيد كثافته. يخلق الغلاف الجوي الأكثف مزيدًا من قوة السحب على الأجسام في الفضاء، مثل الأقمار الصناعية والمركبات الفضائية. ما قد يسبب سقوط هذه الأجسام من مداراتها.

في فبراير 2022، تسببت عاصفة جيومغناطيسية في اضطراب كبير لأقمار ستارلينك الصناعية التابعة لشركة سبيس أكس. كانت هذه الأقمار الصناعية ما زالت في مدار مؤقت منخفض توطئةً لوضعها في مداراتها النهائية. لكن بسبب زيادة السحب الناجم عن العاصفة الجيومغناطيسية، سقط 38 قمرًا صناعيًا على الأرض مرة أخرى لأنها لم تتمكن من الحفاظ على استقرارها في مداراتها الأساسية بسبب القوة الكبيرة التي تعرضت لها.

يعتقد العلماء أن وجود الأقمار الصناعية في مدارات منخفضة في ظل تأثيرات العاصفة الجيومغناطيسية، أدى إلى خسارة الأقمار الصناعية لمواقعها في الفضاء، فدخلت الغلاف الجوي للأرض مرة أخرى، ما أدى إلى احتراقها بسبب سرعة سقوطها بينما تدخل الغلاف الجوي.

في مايو الماضي، تعرضت الأرض لأشد عاصفة جيومغناطيسية خلال 20 عامًا، كانت هذه العاصفة قوية بما يكفي لتعطيل خدمات ستارلينك، وهي مجموعة من الأقمار الصناعية للإنترنت. رغم شدة العاصفة، لم يخرج أي من الأقمار الصناعية عن مداره.

الشمس متجهة إلى ذروة طاقتها

من المتوقع أن يستمر نشاط الشمس بالازدياد حتى تصل إلى مستويات نشاطها القصوى، ما يُسمى فترة الذروة الشمسية، ويزداد خلالها عدد البقع الشمسية والتوهجات الشمسية والانبعاثات الكتلية الإكليلية، ما قد يكون له أثر كبير في الطقس الفضائي وبيئة الأرض.

تفيد التوقعات الحالية بأن فترة الذروة ستحدث في النصف الثاني من العام القادم (2025)، مع ذلك لن نقطع بالأمر إلا عندما يبدأ النشاط بالتراجع مرة أخرى.

من المتوقع أن تكون الذروة الشمسية الحالية أقوى مما اعتقده العلماء في البداية. ومع ذلك، عند مقارنتها بالدورات الشمسية السابقة عبر التاريخ، تُعد شدة هذه الذروة متوسطة نسبيًا. ما يعني أن نشاط الشمس مرتفع حاليًا، لكنه معتاد بالنظر إلى الأنماط طويلة الأمد.

مع أن الذروة الشمسية الحالية قد تكون متوسطة نسبيًا في سياق تاريخي، فإن اعتمادنا الحديث على تكنولوجيا الأقمار الصناعية يجعلنا أكثر عرضة لتأثيراتها. مع اعتمادنا المتزايد على الأقمار الصناعية في الاتصالات والملاحة والوظائف الحيوية الأخرى، قد يكون للاضطرابات التي تسببها زيادة النشاط الشمسي تأثيرًا أكبر في حياتنا اليومية.

اقرأ أيضًا:

هل يملك القمر غلافًا جويًا؟

هل الصور التي تُظهر مجرتنا حقيقية؟ وكيف التُقطت؟

ترجمة: آية شميس

تدقيق: أكرم محيي الدين

المصدر