لطالما قيل لنا ألا نقبل حياةً تصحبها المخاوف أو يتخللها قلق ينهش أدمغتنا. لا شك أن تلك النصيحة تحمل محاسن في طياتها، إذ يستطيع القلق أن يستحوذ على حياتنا، ما يحرمنا الاستمتاع بحلو الحياة، أو تحقيق أهداف وُضعت لتشكل دربنا. لكن تشير الأبحاث الحديثة إلى وجود ما يُسمى جرعة القلق الصحية ، وهي فعالة خاصةً لدى مواجهة أخطار جدية. في دراسة شملت أكثر من 300 ألف بالغ ممن يقطنون المملكة المتحدة، أظهر المشاركون الذين اعتبروا أنفسهم مصابين بالقلق مؤشرات صحيةً أفضل مقارنةً بأصحاب القلق المنخفض. وفي غضون فترة امتدت عدة سنوات، تراجع خطر الوفاة لدى «القلقين» في مواجهة طيف من الحالات، متضمنةً السرطان والأمراض القلبية الوعائية والأمراض التنفسية، إضافةً إلى الحوادث عمومًا.
اقترح الباحثون تفسيرات محتملة لتلك الاختلافات، إذ يبدي القلقون ملاحظةً أقوى للمشكلات الجسدية، ما يدفعهم لطلب العناية الطبية على وجه السرعة، وعلى ذلك ترتفع فرص الكشف المبكر عن الأمراض وعلاجها. وقد ينخرطون في سلوكيات محسنة للصحة، مثل ممارسة التمارين وتناول الأطعمة الصحية، في سبيل تجنب العوامل المضرة بالصحة.
أشارت الدراسة إلى أن المشاعر السلبية الأخرى مثل الغضب والتوتر لا تحمل فوائد القلق نفسها، إذ يبدو أن تلك المشاعر لا تزيد من اليقظة الصحية كما يفعل القلق، فحتى وإن كان القلق شعورًا مزعجًا، فإنه يدفعنا للتصرف بطرق تحمينا والآخرين.
أظهرت أبحاث أخرى أيضًا فوائد صحيةً مرتبطة بالقلق، إذ وجدت إحدى الدراسات أن المدخنين الذين كانوا أكثر قلقًا من آثار التدخين السلبية، كانوا أميل إلى الإقلاع عن التدخين في غضون نحو 8 أشهر لو امتلكوا قدرةً عاليةً على التأثير في أنفسهم، وتحلوا بالإيمان في قدرتهم على الإقلاع عن التدخين عند اتخاذهم القرار.
وفقًا لدراسة أخرى فإن الناس الذين لم يكتفوا فقط بفهم أخطار سرطان الجلد بل أبدوا قلقًا بشأنه، كانوا أكثر إقبالًا على استخدام مستحضرات الوقاية من الشمس إجراءً احترازيًا. أشار الباحثون إلى أن القلق قد يدفع النساء إلى إجراء صور شعاعية للثدي بانتظام، بهدف الكشف المبكر عن سرطان الثدي.
تقول كيت سويني، أستاذ علم النفس في جامعة كاليفورنيا ريفرسايد: «مع سمعة القلق السيئة، فإنه لا يكون دومًا مدمرًا أو غير مُجدٍ». تبدو العلاقة بين القلق والسلوكيات التي قد تحسن من الحالة الصحية معقدة، وتعتمد على مقدار القلق لدى كل شخص. وفقًا لسويني، أظهرت الأبحاث السابقة أن: «النساء اللائي أبلغن عن مستويات معتدلة من القلق، كن أكثر إجراءً لفحوص الكشف المبكر عن السرطان، مقارنةً باللائي أبلغن عن مستويات منخفضة أو عالية نسبيًا. يتداخل القلق المفرط والمنخفض جدًا مع عمل التحفيز، لكن المستويات المضبوطة منه تسهم في عملية التحفيز دون أن يرافقها الإحباط».
درس المؤلفون البحث الذي عالج الجوانب السلبية والإيجابية للقلق، فمثلًا ربطت الدراسات الإفراط في الانزعاج بآثار سلبية مثل اضطراب القلق، والتعب وصعوبة التركيز ومشكلات النوم. ومع ذلك، يقول الباحثون إن أبحاثًا أخرى أظهرت أن القلق قد يحمل تأثيرات إيجابية في السلوك. فقد لا يحفز القلق الناس على أداء أفعال على غرار استعمال واق للشمس وحسب، بل قد يساعد الناس أيضًا على تجهيز أنفسهم للتجارب السلبية في حياتهم بصورة أفضل، ويسهم أيضًا في تحسين مستوى تقديرهم للتجارب الإيجابية. وفقًا للباحثين، إن كان الشخص قلقًا فإنه يهيئ نفسه لوقوع الأسوأ، وإذا وقع السوء المنتظر فإن خيبة الأمل تكون أخف وطأةً نتيجة قلقه المسبق، وبالمقابل إذا تلقى الشخص أنباءً سارةً بدلًا من السيئة المتوقعة، فسيختبر إثارةً أكبر من نظيرتها المرافقة للأخبار ذاتها لو أنه توقع الأفضل منذ البداية.
أوضح سايمون ريغو، الأستاذ المساعد في كلية أينشتاين للطب النفسي السريري والعلوم السلوكية في جامعة نيويورك، أن الورقة البحثية الجديدة تتعارض مع كثير من الظنون حيال القلق، ومع ذلك فإن الفكرة القائلة إن القلق يمتلك أثرًا إيجابيًا هي حتمًا فكرة صحيحة. إضافةً إلى ذلك، توجد حالات نفسية أخرى وعواطف قد تملأ الشخص الذي يختبرها استياءً. مثلًا، قد يؤدي الغضب المبرر إلى تحفيز الناس ويدفعهم إلى الدفاع عن أنفسهم، أو إلى تصحيح إحساسهم بالظلم، فإذا شاهد الشخص من يخدش له سيارته بمفتاح، فسيشعر بالغضب الذي يحفزه لتصحيح الظلم الذي يحدث.
مع هذه الفوائد، فإن القلق حيال الصحة قد يحمل تأثيرًا معاكسًا في بعض الحالات، كأن نخشى سلوكًا يُعد في الواقع سليمًا، أو أن نستمر بالقلق حيال عرضٍ غير خطر. إضافةً إلى أن القلق المزمن غير المُجدي -سواءً أكان يتعلق بالصحة أم لا- قد يخل بنظام النوم، أو يزيد خطر الإصابة بالأمراض الناجمة عن الضغط والتوتر. إذ يعد القلق المفرط عرَضًا لاضطراب القلق العام.
فما الذي يميز القلق النافع عن القلق الأقل نفعًا؟
يميل القلق المُجدي إلى أن يكون أكثر تركيزًا على الحلول وأكثر محدوديةً بالوقت من القلق غير المجدي. فشعور القلق ينذرنا بخطب محتمل، ما يحفزنا لنتمعن في كيفية مواجهة هذا الخطر. مثلًا، إن قرأت مقالًا حول أخطار نمط الحياة قليل الحركة، وأصبحت قلقًا بشأن مقدار الوقت الذي تقضيه جالسًا طوال اليوم، فقد تفكر في طرق مختلفة لزيادة نشاطك الحركي، كأن تخصص استراحات للمشي، أو تستشير طبيبًا مختصًا.
نحن نقلق أحيانًا حيال أشياء تكون إلى حد بعيد خارجةً عن سيطرتنا، ولا تخضع إلى حلول عملية بالضرورة، مثل القلق حيال نتيجة اختبار طبي على وشك الصدور، أو عدم القدرة على توقع الحالة الصحية لشخص نحبه. تُعد هذه المخاوف طبيعيةً وليست غير مجدية، فهي لا تزال تحفزنا على أداء أشياء تساعدنا أو تساعد الآخرين على التغلب على المشكلة، وإن كنا غير قادرين على حلها أو التحكم في النتائج.
تكمن الاستجابة المُثلى للقلق في فهمه والتعامل معه بأريحية، بدلًا من الوقوع في شراك أسوأ السيناريوهات والانغماس فيها، إذ يُستبعد أن تختفي مشاعر القلق ببساطة فور إخبار أنفسنا ألا نقلق. توجد الكثير من السبل لتهدئة العقل القلق مثل التعاطف مع الذات والتأمل والتواصل مع الآخرين لطلب المساعدة، ضمن حدود نواظب فيها على مواجهة همومنا بجدية.
اقرأ أيضًا:
ترجمة: باسل الجردي
تدقيق: راما الهريسي
مراجعة: أكرم محيي الدين
المصادر: psychologytoday, livescience