في كل مرةٍ نأكل منتجات اللحوم نستهلك موارد الأرض، فهل يستطيع الذكاء الصناعي إيجاد طرقٍ جديدةٍ لصناعة طعامٍ خالٍ من اللحوم ويتميز بنفس الطعم؟
هل تتذكر آخر قطعة برجر استمتعت بها؟ حاول أن تتذكر مذاقها الغني المميز في عقلك وطريقة مضغها، صلبةٌ لكنها طريةٌ ومقرمشة، حاول أن تتذكر مذاقها الذي يملأ فمك بالنكهة كلما قضمت منها.
تذكر الرائحة، تذكر كم كانت مُرضيةً لك.
والآن حاول أن تفكر كيف سيكون طعمها بدون اللحم.
إن إنتاج اللحم للبرجر يكلف البيئة الكثير حول العالم. لكن هل ستكون سعيدًا بالبديل الإسفنجي الذي يستمتع به بعض النباتيين؟ ماذا لو كانت هناك طريقةٌ أخرى لاستبدال الروعة الحسية الخاصة بالبرجر؟
تستخدم مجموعةٌ من رجال الأعمال الناشئين حاليًّا الذكاء الصناعي لإيجاد الجواب.
إنهم يسعون لإنتاج شيءٍ شبيهٍ جدًا ببرجر اللحم الحقيقي من ناحيتيّ الطعم والملمس، لدرجةٍ تجعل التفريق بين وجود العنصر الحيواني في هذا المنتج وعدمه مستحيلًا.
ليس اللحم هدفهم الوحيد، بل المايونيز أيضًا، وعجين البسكويت، والجبن، والشوكولا وأي شيءٍ آخر يحتوي مكونات حيوانية.
إنهم يحلمون بتحويل النظام الغذائي العالمي الافتراضي إلى نباتيٍّ عن طريق إيجاد خيارٍ نباتيٍ سهلٍ ورخيصٍ ومريحٍ على القائمة.
إن فكرة استبدال الطعام الحيواني ليست جديدةً بالطبع، لكن الذكاء الصناعي يقدم طريقةً واعدةً وأكثر قوةً لتحقيق ذلك.
إنها تسمح لعلماء الطعام باكتشاف مكوناتٍ جديدةٍ لتطوير وصفاتٍ مذهلةٍ وإيجاد طرقٍ لتقليد كل الأطعمة الدهنية اللذيذة والبروتينات التي يقدمها البيض واللبن واللحم لطعامنا.
الطعام المجنون
إن الطريقة التي نأكل بها اليوم جدُّ مجنونة، يقول جوش تيتريك، المؤسس والرئيس التنفيذي لشركة الطعام الناشئة هامبتون كريك، وهي من ضمن الشركات التي تستخدم الذكاء الصناعي لتطوير أطعمةٍ جديدة. ستة مليار شخصٍ يأكلون طعامًا سيئًا للغاية، يضيف تيترك.
رغم كونه نباتيًّا متشددًا يفضل سلطة اللفت على المافن (نوع من الفطائر-muffin)، فتيتريك مقتنعٌ أن شريحةً بسيطةً من سكان الأرض يتناولون طعامًا صحيًّا ومستدامًا.
يتخيل تيتريك مستقبلًا يكون فيه اختيار كونك نباتيًّا متاحًا لا فقط للطبقة المقتدرة من المجتمع، بل لكلّ أولئك الذين ليس لديهم حق الاختيار.
بدأ سعيه بطريقةٍ يدوية بعيدًا تمامًا عن التكنولوجيا، فبحث عن أطعمةٍ نباتيةٍ بالأساس وأضافها إلى قاعدة البيانات الأساسية.
لم يكن لدي أي فكرةٍ عن ماهية تعلم الآلة أو ماهية الأحياء الحاسوبية، يقول تيتريك.
ليدخل عالم الذكاء الصناعي بعد ذلك عن طريق أحد أصدقائه. خوارزميات تعلم الآلة القوية تسمح له بشكلٍ نظاميٍ بإيجاد مكوناتٍ جديدةٍ أو صياغاتٍ تقدم بدائل للمنتجات الحيوانية.
إنه ليس وحيدًا في مهمته.
على بعد آلاف الأميال جنوبًا، إلى سانتياجو وتشيلي، ماتياس موشنيك وكريم بشارة وبابلو زامورا يجربون شيئًا مشابهًا من خلال شركتهم الجديدة نت كو (not co). إنهم يطمحون أن يأكل الناس بطريقةٍ أكثر فائدةً وأقل ضررًا على البيئة.
إذا أردنا أن نبحث عن أسوأ طريقةٍ ممكنةٍ لإطعام أنفسنا، فستكون الطريقة التي نأكل بها اليوم هي النتيجة، يقول موشنيك.
الأطعمة الحيوانيةٌ تستهلك الكثير من موارد كوكبنا.
كما هو مبينٌ في هذا المقال الخاص بالبي بي سي عن المستقبل، إزالة اللحم من نظام البشر الغذائي قد يوقف ما يقارب 60% من انبعاثات الغازات الدفيئة المتعلقة بالطعام، كما سيحرر المزيد من حصة الماء النقي والأراضي الزراعية التي تستخدمها المواشي.
كما يوجد أيضًا الكثير من المسائل الأخلاقية والعمالية والمتعلقة بالأرض والتخلص من القمامة الناتجة عن مصانع تجهيز اللحوم الكبرى.
التكلفة البشرية ضخمةٌ، فتلك الشركات تُجوّع الناس الذين تُربي اللحوم لهم، تقول الصحفية كاتي كايفر مؤلفة كتاب ما مشكلة اللحم.
لا زال احتياج العالم للحم يزداد مع التزايد السكاني ونموّ الاقتصاديات.
تضاعف الإنتاج العالمي للحم من 159 مليون طن في عام 1986 إلى ما يقارب 318 مليون طن عام 2014 وفقًا لمنظمة الطعام والزراعة التابعة للأمم المتحدة.
حتى في دول العالم التي لا تتوفر فيها الرفاهية، استهلاك اللحوم يقاوم التدهور بعنادٍ شديد. تُقدر نسبة النباتيين في كل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بأقل من 10%.
كما تقول كايفر، سيكون من الصعب إخبار الناس الذين لم يتذوقوا اللحم من قبل والذين على وشك أن يكتشفوا ما هو اللحم أنهم لن يستطيعوا الحصول عليه.
لذلك يجب على أي بدائل للحم يأتي بها تيتريك أو موشنيك أن تتمتع بطعم اللحم الأصلي وشكله تمامًا.
لكنها أيضًا يجب أن تكون قابلةً للإنتاج بكمياتٍ كبيرة، وأن تكون في المتناول كما نأمل أن تكون صحيةً بشكل أكبر. إذًا كيف سيساعد الذكاء الصناعي في ذلك؟
الوحدات البنائية
إن طريقة البدء بالنسبة لأناسٍ مثل تيتريك وموشنيك تتمثل في تغيير المنظور.
فكرتهم عن المافن تختلف تمامًا عن فكرة الشخص العادي حياله.
هم يرون صندوق أدواتٍ عندما ينظرون إلى مخزن طعام، ويرون تجربةً كيميائيةً عندما ينظرون إلى الحلوى، المافن يحتاج إلى التخمر والنضوج إلى أن يصبح بنيًّا. يحتاج إلى بنيةٍ معينةٍ، كما أن له تاريخًا لانتهاء صلاحيته، يوضح تيتريك. (دون أن يتطرّق إلى أي شيءٍ يتعلق بالمذاق الذي يجب أن يتميز به المافن.)
إن جعل المافن يتميز بكل ذلك هو هدفهم ولكن باستخدام مكوناتٍ مختلفة.
إنه لغزٌ صعب الحل كما قال ريكاردو سان مارتن، الأستاذ الزائر في معامل اللحم البديل في جامعة كاليفورنيا في بيركلي.
على صعيدٍ آخر فإن كل جانبٍ من التجربة بما في ذلك المذاق والملمس وحتى طريقة التغير أثناء الطهي ناتجٌ عن جزيئاتٍ معينةٍ أو مكوناتٍ جزيئيةٍ مثل البروتينات أو الدهون. في نظامنا الغذائي الحالي، معظمها تأتي من مكوناتٍ حيوانية.
إن الخطوة الأولى لإيجاد بدائل هي تحديد أكبر عددٍ ممكنٍ من المرشحين والذي يتم بتقصّي العالم لإيجاد نباتاتٍ قابلةٍ للأكل.
تكمن المشكلة في عدم التأكد حيال أي هذه النباتات سيفي بالغرض.
حتى الناس الذين يأكلونها يوميًا قد لا يرجحون استبدال اللحم أو البيض بها.
ثم يجب أن يُحلل الطعام بعد ذلك.
على الباحثين اكتشاف مكونات كل عنصرٍ نباتي، على المستوى الجزيئي، كما يجب عليهم معرفة نسب المكونات.
كل هذه البيانات تذهب إلى قاعدة بياناتٍ فيها الآلاف أو حتى الملايين من المدخلات اعتمادًا على مدى دقة التحليل. هناك أكثر من 250,000 نوعًا من النباتات القابلة للأكل في العالم وفقا لمنظمة الزراعة والطعام العالمية (FAO) يندرج تحت كلٍ منها عددٌ لا يحصى من الأنواع الفرعية.
كما لو أن الأحجية ليست صعبةً بما فيه الكفاية، هناك أيضا مسألة تفاعل هذه المكونات مع بعضها البعض.
إذا قمت بها بطريقةٍ خاطئةٍ فإن بعض المزائج قد تنتج طعمًا غير متوقع، أو ردود فعلٍ غير مرغوبة.
تكمن المشكلة كما يقول سان مارتن في أن التفاعلات بين المكونات معقدةٌ جدًا، مما يعني أن الكثير من الأشياء يمكن أن تفشل بطريقةٍ غير متوقعةٍ بتاتًا.
إن معرفة الكثير من المتغيرات هو أمرٌ محيرٌ ولكن هنا تمامًا يكون الذكاء الصناعي فعالًا.
فبدلًا من التذوق يدويًا وتوقع الوصول لنتيجةٍ جيدةٍ بالصدفة، يكون استخدام الذكاء الصناعي أكثر منطقيةً.
إنه يستطيع فعل ذلك من خلال تعلم الآلة، تلك التقنية التي تعتمد أساسًا على السماح للحاسوب بتعلم طريقة حل مشكلةٍ بالمحاولة والفشل فيها عدة مرات.
إنها تُستخدم في حل العديد من القضايا المختلفة، من قبيل تحديد وجهك في صورةٍ أو مساعدة الأطباء في رصد السرطان.
لا يستطيع الذكاء الصناعي حل المشكلة في أول محاولة، إلا أنه يتطور مع كل خطأ، وغالبًا ما تتم تلك العملية بمساعدة التدخلات البشرية.
النتائج قد تكون مذهلةً.
وجد هامبتون كريك مؤخرًا البروتين المعزول لأحد البقول الهندية، والذي يشبه خصائص البيض المخفوق.
أحد أكثر التركبيات إدهاشًا لنت كو هو نموذج الشوكولا الخاص بها: مزيجٌ غريبٌ من البروكلي والجوجي (أحد أنواع الفاكهة Goji ) والفطر وأحد أنواع المكسرات والذي، لسوء الحظ، لن يعلنوا عن اسمه.
استعملت تلك الشركات حتى الآن الذكاء الصناعي لإنتاج بعض المستحلبات (أطعمةٍ سائلةٍ مثل المايونيز بديلة للبيض المخفوق أو عجين البسكويت).
الأطعمة الصلبة أكثر تعقيدًا في المحاكاة، فهي تتطلب التحرير البطيء للجزيئات لإضفاء خاصية القرمشة، الأمر الذي، كما يقول سان مارتين، يشكل جزءًا من تجربة القضم والأكل.
إن ذلك يشبه حلًا للغزٍ ثلاثي الأبعاد بدلًا من آخر ثنائي الأبعاد فقط. مع ذلك نوتكو لديها خطة.
ننتج لبنًا يشبه حليب البقر، يقول زامورا، ليس فقط بقيمةٍ غذائيةٍ مشابهةٍ أو حتى أفضل من حليب البقر، بل أيضًا بنفس تركيبته الفعالة.
يعني بذلك أنه يمكن استخدامه بنفس طريقة استخدام الحليب حاليًا للشرب والطهي وصناعة الجبن والزبادي أو المثلجات. إلا أنه سيكون منتجًا نباتيًا.
مع ذلك فإن الهدف الرئيسي هو استبدال اللحم، كما أن كلاً من الشركتين الناشئتين تطبقان حلولًا مختلفةً لتلك المعضلة.
هامبتون كريك تقوم بجمع خلايا عضليةٍ ودهنيةٍ في المعمل وتعمل على إيجاد طريقةٍ لتغذية تلك الخلايا بمغذياتٍ نباتية.
نوتكو تبحث عن طرقٍ لإعادة تصنيع اللحم بمكوناتٍ نباتيةٍ فقط.
توجد رسالةٌ خفيةٌ في اسم الذكاء الصناعي الخاص بنت كو والذي يدعى جيوسيبي تيمّنًا ب جيوسيبي أرسيمبولدو، أحد رسامي النهضة الذي رسم صورًا لبشر بخضرواتٍ وفواكه. المكون الحيواني ليس خيارًا لنا، يقول مونشيك.
لكن حتى مع الذكاء الصناعي، فإن تقدمهم بطيءٌ جدًا ويحتاج الكثير من الجهود.
فاللغز ليس هينًا على الإطلاق وأي أخطاءٍ بسيطةٍ قد تفسده. ذلك يشبه بطريقةٍ ما بناء منزلٍ صغيرٍ أو بناء صرحٍ ضخمٍ، يوضح سان مارتن.
كلاهما مبنيٌّ من نفس الوحدات البنائية الأساسية لكن أحدهما أكبر من الآخر بكثير. بالنسبة لهؤلاء الذين يحاولون تغيير طريقة غذائنا، لن يرضوا ببناءٍ يقل عن الصرح الضخم.
تحدياتٌ مستقبلية
إنتاج تلك الأطعمة الجديدة هو التحدي الأول، وإقناع العالم بأكل تلك الأطعمة هو تحدٍ آخر.
نحن نغير نظامنا الغذائي ببطءٍ شديد، يقول ديفيد هيوز، الأستاذ الفخري في تسويق الطعام في جامعة إمبريال، لندن.
إن أنماط استهلاك الطعام صعبة التغيير، حتى في وجود البدائل الجيدة. التسويق مهمٌ ولكنه مكلف. فالمال الذي استقبلته هامبتون كريك للاستثمار (220 مليون دولار) والدعم المالي لنت كو (2.6 مليون دولار) بعيدٌ كل البعد عن الميزانيات المخصصة لعمالقة الطعام العالميين. فشركة نستله أكبر شركة طعامٍ في العالم تُقدر ميزانيتها بما يقارب 229.5 مليار دولار.
يعتقد هيوز أنه المساحة ستُتاح لكل هؤلاء اللاعبين في المستقبل.
الاعتبارات الصحية والبيئية والمعنيون بحقوق الحيوان، كل ذلك سيؤدي لتقبل منتجات الذكاء الصناعي تلك بصورةٍ أكبر.”كما يعتقد هيوز أيضًا أنهم قد يصبحون جزءًا مهمًا ولكن صغيرًا، في سوق البروتينات حول العالم.
لكن هنالك مشكلةٌ أخرى قد تعوق انتشارهم عالميًا كما يطمحون.
حيث يبدو أن الخوارزميات لها عيوبها الخاصة. إنها متحيزةٌ للطريقة التي تعلمها بها وللطريقة التي تفسر بها البيانات والطريقة التي تستخرجها بها، يقول سان مارتن.
المشكلة هي أن الأطعمة المفضلة تعتمد على الثقافة، فمثلًا حاول جعل الأمريكيين يأكلون المارمايت (طعامٌ موجودٌ في إنجلترا ولكن الكثير من الناس لا يتقبلون طعمه).
إذا كانت تلك الأطعمة الجديدة مكونةً لتلبية النكهات الخاصة بالغربيين ذوي البشرة البيضاء الذين يشرفون على برنامج الذكاء الصناعي، فمحكومٌ عليها بالفشل. يصر تيتريك على محاولة حل المشكلة بتوظيف فريقٍ ينحدر أعضاؤه من مناطق مختلفةٍ حول العالم.
في الوقت الذي لا تواجه فيه تلك الشركات أي مسائل متعلقةً بسلطات الصحة على سلامة منتجاتها، فقد تبدأ في مواجهة المشاكل إذا اتجهت إلى مكوناتٍ لم تُستعمل من قبل كطعام.
لكن ربما تكون المشكلة الأعقد على الإطلاق والتي تعجز الآلات عن حلها.
أيًا كان ما تنتجه لنا تلك الآلات من تركيباتٍ لاستبدال اللحم أو الجبن أو البيض، فإنها على الأرجح ستنتج طعامًا لم يؤكل من قبل. والبشر مخلوقاتٌ متقلبةٌ ومع ذلك يصعب تغيير عاداتهم.
- ترجمة: هشام محمد منير
- تدقيق: م. قيس شعبية
- تحرير: ندى ياغي
- المصدر