منذ فجر البشرية، طرح البشر تساؤلات دائمة تتعلق بالوجود. من نحن؟ من أين أتينا؟ هل نحن وحيدون في هذا العالم؟ وهل توجد قوّة عظمى تتحكم في مصيرنا؟ وتفاوتت الفرضيات لبحث إجابات هذه الأسئلة. وإحدى هذه الإجابات فرضية تقول إن الواقع الذي نعيش فيه الآن غير حقيقي ونحن في محاكاة من صنع الكمبيوتر ، تمامًا كما هو الحال لو كنّا كائنات في لعبة فيديو!
تعود جذور هذه الفكرة إلى زمنٍ طويل، إذ اعتقد العديد من الفلاسفة قديمًا بفكرة أننا نعيش في محاكاة ومنهم أفلاطون في إحدى حواراته والمعروفة بكهف أفلاطون أو أسطورة أفلاطون والفيلسوف الصيني جوانغ زي في حلم الفراشة وآخرها كان إيلون ماسك مؤسس شركة سبيس إكس الذي قال في مؤتمر صحفي عام 2016 أن احتمال عيشنا في واقع حقيقي هو واحد بالمليون.
لو كنّا نعيش في محاكاة فستكون محاكاة لإدراك الواقع عند طلبه عوضًا عن إدراكه كل الوقت، كما لو كنتَ لاعبًا بداخل لعبة فيديو ذكيّة تستطيع إدراك جزء من المشهد ولا تتمكن من إدراكه كاملًا.
في أحد عروض البرامج الأميركية دار حوار بين نيل تايسون عالم الفلك الفيزيائي وأحد الضيوف في مناقشة فرضية المحاكاة إذ قال الضيف: «ربما تكون فرصة أننا نعيش في محاكاة سببًا في عدم قدرتنا على السفر أكثر من سرعة الضوء، لأنه لو تمكّنا من ذلك، فسنكون قادرين على الوصول إلى مجرة أخرى» ليقوم تايسون بمقاطعته قائلًا: «حتى لا نتمكن من إنشاء محاكاة مشابهة، وضع المبرمج هذا الحد!».
في عام 2003 أثار الباحث السويدي نيك بوستروم الجدل في الوسط العلمي بعد نشره ورقةً بحثيةً تناقش احتمالات أن يكون الكون الحالي محاكاةً حاسوبيةً من صنع الكمبيوتر، وخُيّل لبوستروم وجود حضارة ذكيّة تمتلك قوةً حاسوبيةً فائقة يمكنها استخدام جزء من هذه القوة في إنشاء محاكاة لوقوع جديدة مع كائنات «واعية» بداخلها. وبحسب ذلك السيناريو، يظهر نقاشه حول المحاكاة أن على أحد الفرضيات الثلاث التالية أن تكون صحيحةً:
- ينقرض البشر دائمًا قبل الوصول إلى مرحلة إدراك المحاكاة أو التمكن من إنشاء محاكاة مشابهة.
- لو تمكّن البشر من إنشاء محاكاة كالتي يعيشون فيها، فمن غير المرجّح، أن يهتمّوا بمحاكاة ماضي أجدادهم أو محاكاة حضارة مشابهة لحضارتهم.
- نحن فعلًا نعيش في محاكاة حاسوبية!
ومن تداعيات ورقة بوستروم العلمية انقسام العلماء في الإجابة عن تلك التساؤلات وتحليل احتمالية صحّة هذه الفرضية. ويُظهر تحليل جديد أن احتمال كوننا كائنات تعيش في واقع حقيقي يساوي تقريبًا احتمال كوننا كائنات افتراضية، بالإضافة إلى أن تَمكُّنَ البشر من إنشاء محاكاة بداخلها كائنات «واعية» سيجعل احتمال أننا افتراضيون ونعيش في حاسوب أحدهم احتمالًا أكبر، لكن يكمن اللغز في مفهوم «الوعي» نفسه وهل يمكن محاكاة الوعي والإدراك الذي يمتلكه البشر بشكل مماثل؟
تحليل فرضية المحاكاة
وجد العالم الكولومبي دافيد كيبينج أن أفضل طريقة لتحليل فرضية المحاكاة هي تحليلها من منظور علمي رياضي، ومن أجل ذلك استخدم «مبرهنة بايز» وهو أحد مناهج الاستدلال الإحصائي الذي يستخدم نظرية بايز المنسوبة إلى عالم الرياضيات الإنجليزي السابق توماس بايز. وتسمح مبرهنة بايز حساب احتمالات حدوث شيء ما «الاحتمال اللاحق» عبر وضع فرضيات لإمكانية حدوثه «الاحتمال السابق»، أي احتمال وقوع حدث ما بناءً على الظروف السابقة التي قد تكون ذات صلة بالحدث.
بدأ كيبينج بتحليل السيناريوهات الثلاثة التي طرحها بوستروم في فرضية المحاكاة، واستطاع بسرعة استبعاد السيناريو الأول والثاني لأنهما يقودان إلى عدم وجود محاكاة، ومن ثم تظهر النتيجة فرضيتين لا ثالث لهما تُشير الأولى إلى أننا «نعيش في واقع افتراضي» مقابل فرضية فيزيائية تشير إلى أننا «نعيش في واقع حقيقي» وكل فرضية تحصل على نصف الاحتمالات كما لو كنتَ تراهن على أحد وجهي العملة النقدية!
انتقل كيبينج في رحلته إلى تحليل فرضية المحاكاة إلى المرحلة الثانية وهي التفكير في موضوع الوقوع الثابتة والوقوع المتجددة ومنها موضوع التكاثر، ومن ثم إذا كانت الفرضية الفيزيائية صحيحة فإن الكون الذي نعيش فيه هو كون ثابت لا يمكن استنساخه وصنع كون شبيه، وحتى لو كانت فرضية المحاكاة صحيحة فستكون معظم الوقوع ثابتة وستكون الكائنات غير قادرة على التكاثر لأنه مع خلق أجيال جديدة باستمرار لن تكون قدرة الحوسبة كافية على محاكاة الوقوع الناتجة والقادرة على استضافة كائنات ذات وعي.
عند استخدام الاحتمالات السابقة بتحليل بايزي نحصل على نتيجة مفادها أن الاحتمال السابق «الواقع الذي نعيشه الآن» يساوي نسبة الاحتمال اللاحق «واقع افتراضي» مع ميل بسيط لصالح الاحتمال الأول.
ما نسبة احتمال فرضية المحاكاة
إن جميع المعلومات والاحتمالات السابقة ستتغير في حال تمكن البشر من إنشاء محاكاة لواقع افتراضي يحتوي بداخله كائنات «واعية»، لأن هذا الحدث سيزيد من احتمال أن البشر نفسهم يعيشون داخل واقع افتراضي!
وفق تحليل كيبينج فإن -وبحسب الأدلة الحالية- إيلون ماسك مخطئ بأن احتمالية وجودنا في واقع حقيقي تبلغ واحد في المليون، أما الباحث السويدي نيك بوستروم أول من أثار الجدل في هذا الموضوع فهو مقتنع بالنتيجة التي حصل عليها كيبينج مع بعض التحفظات فحواها أن النتيجة لا تتعارض مع فرضية المحاكاة الخاصة به والتي تفترض صحة واحدة من السيناريوهات الثلاثة.
من الجدير بالذكر أيضًا أن العالم كيبينج اعتمد مبدأ اللا مبالاة في تحليله لفرضية المحاكاة وهو مبدأ يعتمد على توزيع الاحتمالات بالتساوي على الفرضيات الموجودة عندما لا تمتلك أي معلومات أو بيانات تُرجح كفة إحداها، لكن بوستروم نفسه يعترض على هذا المبدأ وخاصةً فيما يتعلق بالفرضية الفيزيائية.
قد تبدو فرص حدوث هذه الفرضيات متساويةً خاصةً مع عدم وجود الأدلة وبالطبع سيتغير هذا الموقف في حال وجود دليل ما على وجود محاكاة. لكن لو فرضنا أننا نعيش في واقع افتراضي فهل يمكننا اكتشاف عيوب في هذه المحاكاة؟
ميكانيك الكم لتحليل المحاكاة
حاول هومان أوهادي أستاذ الرياضيات في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا الإجابة عن السؤال السابق فقال: «إذا كانت المحاكاة تتمتع بقوة حوسبة غير محدودة فلا يمكنك التحقق من معرفة أنك تعيش في واقع افتراضي، لأن المحاكاة ببساطة تستطيع حساب درجة الواقعية التي تريدها، وإذا كانت لدينا فرصة في اكتشاف هذه المحاكاة فيجب أن تنطلق من مبدأ أنها تتمتع بقدرات حوسبة محدودة. فكّر مرة ثانية في ألعاب الفيديو التي نصنعها التي يعتمد معظمها على برمجة ذكية لتقليل الحوسبة المطلوبة لبناء عالم افتراضي».
بالنسبة لأوهادي فإن الطريقة الواعدة للكشف عن عيوب أو تناقضات في نظام المحاكاة هي فيزياء الكم التي ينص أحد أهم المبادئ الرئيسية فيها -وهو مبدأ التراكب الكمي- على أن أي حالتين كموميتين أو أكثر يمكن أن يندمجا كما تفعل الأمواج في الفيزياء الكلاسيكية لتشكيل حالة كمومية جديدة وتُعد «الدالة الموجية» وصفًا لهذا الاندماج أو التراكب.
نعلم أن قيامنا بالرصد أو القياس في ميكانيك الكم هو من يخلق الجسيم ويحدد حالته، وهو أيضًا مبدأ أساسي في ميكانيك الكم يسمى مبدأ انهيار الدالة الموجية وينقسم علماء الفيزياء في تفسير هذا الانهيار حول إذا ما كان حقيقيًا أو أنه يعكس فقط تغيرًا في فهمنا للنظام. كل شيء يتقرر عندما تنظر إليه، وباقي الأمر مجرد محاكاة، تمامًا كما لو كنت تلعب لعبة فيديو! هكذا أشار عالم الرياضيات أوهادي مؤكدًا أن وجود محاكاة بحتة سيؤدي حتمًا إلى عدم وجود انهيار وبالتالي سيرفض ميكانيك الكم ذلك.
للوصول إلى تفسير ونتيجة لهذا، حلل أوهادي وزملاؤه خمسة أفكار رئيسية لتجربة الشق المزدوج -تجربة شقي يونج- وكل منها مصمم إظهار أخطاء المحاكاة، ويؤكد أنه رغم تجاربه يستحيل في هذه المرحلة تقييم مدى نجاح هذه التجارب.
محاكاة نواة ذرّة الهيليوم
شاركت عالمة الفيزياء في جامعة ميريلاند زهرة داوودي باقي العلماء في النقاش حول فرضية المحاكاة، وأشارت إلى إمكانية الكشف عن محاكاة في حال تمتعت بقوى حوسبية محدودة. تعمل زهرة في أبحاث القوّة النووية وخاصةً في مجال التفاعلات القوية ومنها تفاعل الكواركات مع بعضها لتشكيل البروتونات والنيوترونات التي يصعب تحليلها بسبب التعقيد.
لفهم هذه التفاعلات، يُضطر العلماء إلى إجراء عمليات محاكاة عددية، لكنها بالطبع لا تفترض وجود حضارات خارقة ذات قدرة غير محدودة، بل طرق مختصرة لجعل المحاكاة قابلة للتطبيق بشكل حسابي، وعادةً ما يُنفذ ذلك عبر عزل الزمكان واعتباره ثابتًا وكانت أفضل نتيجة حصلوا عليها عند محاكاة نواة ذرة واحدة من الهيليوم تتكون من بروتونين ونيوترونين.
وتقول زهرة في تعقيبها عن ذلك: «إذا تمكنّا اليوم من صنع نواة ذرة الهيليوم، ربّما بعد عشر سنوات سنتمكن من محاكاة نواة أكبر منها، وبعد 20 أو 30 سنة قد نتمكن من محاكاة جزيء حتى نصل بعد 50 سنة إلى إمكانية صنع شيء بحجم عدّة بوصات، ونصل في النهاية بعد 100 عام مثلًا إلى محاكاة العقل البشري!».
تعتقد زهرة أيضًا أن أجهزة الحاسوب الحالية ستصل إلى حدودها النهائية في محاكاة الأنظمة الفيزيائية خلال 10 أو 20 سنة، ومن ثم حولت عالمة الفيزياء تركيزها إلى الحوسبة الكمومية التي تفتح آفاقًا واسعة في معالجة المشاكل الحسابية التي يستحيل معالجتها بواسطة الحوسبة التقليدية وتؤكد العالمة أن تحقيق الحوسبة الكمومية سيدخلنا في مرحلة مختلفة تمامًا من المحاكاة.
ساهمت المعلومات آنفة الذكر في توليد قناعة لدى زهرة بإمكانية أن يكون واقع البشر الحالي واقعًا افتراضيًا وأننا نعيش في محاكاة، وقد يقطّع المحاكي أو صانع هذا الواقع الافتراضي الزمكان لتوفير موارد الحوسبة بفرض أنه يستخدم نفس تقنيات المحاكاة التي يستخدمها علماء الفيزياء اليوم، ويمكن مشاهدة علامات تقطيع الزمكان في الاتجاهات التي تصل منها الأشعة الكونية فائقة الطاقة؛ التي تسلك اتجاهًا مفضلًا بسبب انكسار ما يسمى التناظر الدوراني.
تشير زهرة إلى أن المراصد والتيليسكوبات لم ترصد أي انحراف عن هذا التناظر حتى الآن، ولو رُصد مثل هكذا انحراف فلن يكون دليلًا جازمًا بصحة فرضية المحاكاة، إذ يمكن للواقع الحقيقي أيضًا التمتع بمثل هذه الخواص.
أما العالم الكولومبي كيبينج وبالرغم من دراسته الخاصة فهو يبدي قلقه من خطورة التعمق في العمل على نظرية المحاكاة، ويقول: «الموضوع مثير للجدل وغير قابل للاختبار سواء كنا نعيش في محاكاة أم لا، وإذا لم نتمكن من نقضه فكيف يمكننا الإدعاء أنه علم حقيقي؟». وبالنسبة إليه توجد إجابة أكثر وضوحًا وتتمثل في (نصل أوكام) أو مبدأ البساطة فإذا استطاع الشخص أن يفسر الشيء تفسيرًا بسيطًا دون الغوص في التعقيدات، فإن التفسير البسيط هو الأصح. تُعد فرضية المحاكاة متقنة إذ تفترض وقوع متداخلة فوق وقوع بالإضافة إلى أن الكائنات التي تعيش في الواقع الافتراضي لا يمكنها معرفة أنها داخل محاكاة، نظرًا لأنه نموذج متطور للغاية ومعقد جدًا وسيكون أمرًا مكروهًا للتفسير بواسطة نصل أوكام مقارنةً بوسائل التفسير الطبيعية.
في النهاية قد نكون في واقع حقيقي غير افتراضي رغم فيلم ماتريكس الذي روّج لهذه الفكرة عام 1999 ورغم تصريحات إيلون ماسك أو الفيزياء الكمومية الغامضة.
اقرأ أيضًا:
جوجل تعلن إطلاق المحاكاة الكمية الأولى من نوعها لتفاعل كيميائي
هل يمكننا تصميم الكون ب كامله عن طريق المحاكاة الحاسوبية ؟
ترجمة: بيان علي عيزوقي
تدقيق: مازن النفوري
مراجعة: آية فحماوي