من منا لم تنتابه البهجة يومًا حينما روى مشاعره المتخبطة ووجد الطرف الآخر مُدركًا لما يمر به؟! ألم تشعر يومًا بهذا الارتياح الذي يكتنفك إذا فطن صديقك إلى ما لم تسعفك الكلمات لتوضيحه، بل واستطاع إيجاد مُسمى يعبر بدقة عنه؟! وعلى النقيض، أتذكر ذلك الاستياء الذي تملكك حينما شعرت بأنه لا يوجد شخص يفهمك ، تلك اللحظات التي تهجرنا خلالها مشاعر الارتياح، ويتأتى إلينا الألم والوحدة وتزداد تشككاتنا حول أقرب علاقاتنا.
نعم، إن لم يشعر المرء بوجود من يعرفون جيدًا من هو -أو على الأقل لديهم القدرة على فعل ذلك- فسيكون على مشرفة من اختبار مشاعر الوحدة وقد تصل إلى اليأس في بعض الأحيان. في تلك الحالة يجد الإنسان نفسه في مكان مُظلم يوصله إلى ذاك الشعور بالخواء والوهن، وفي مثل هذه الحالة ربما تُسلب حياته بيده.
يمكن للشعور الدائم بالعزلة الشديدة عن الآخرين أن يجعلنا مرتابين حول حقيقة وجودنا؛ فكثيرًا ما اعتُبرت الوحدة كلمة مرادفة للاكتئاب، لهذا السبب نجد لدى المصاب بالعزلة القهرية نزعةً انتحارية، وربما يقدم على اقتراف ذلك.
إذا كنت في علاقة تفتقر للجوهر الكيميائي والتجاذب الجنسي الملتهب والمتولد بقوة في حالة الحب الرومانسي، هل يمكنك أن تبقى على علاقة مع شخص لا يفهمك أو على الأقل لا يقدر على ذلك؟!
ينهار جسر العلاقة بينك وبين الطرف الآخر حالما شعرت بأنه أساء فهمك، إنك تشعر وكأنك نُفيت إلى جزيرة مُنعزلة وحيدًا، إن لم يكن هذا الحب كافيًا لتجاوز تلك الفجوة التي حدثت بينكما بحميمية وبناء ذلك الجسر مرة أخرى بولع ووفاء، فلا يوجد لدينا أدنى فكرة عن »أي حب هذا؟!».
إليك عشرة أسباب توضح أن وجود آخرين يمكنهم فهم كلماتنا وتصرفاتنا هو أمر بالغ الأهمية لتحقيق الحاجة الدائمة للشعور بالأمان والسعادة:
1. أن تكون معروفًا
عندما تختبر شعورًا بأن الطرف الآخر لا يفهمك، ينقطع الاتصال بينك وبينه -حتى لو حدث هذا مؤقتًا- فعندما لا تُفهم تصبح وحدك، منعزلًا، منقطعًا عن الآخر، والعكس صحيح، هذه هي الميزة الأهم من كونك مفهومًا ومنها تنبع باقي المزايا.
2. أن تكون هويتك مؤكدة
يعزز وجود آخرين يرونك كما أنت وبالطريقة التي تريد أن يُنظَر لك فيها، يؤكد لك أن الشخص الذي تؤمن أنه أنت هو شخص مفهوم له مسوغاته، حينما تصبح “مدركًا” بحق ستشعر بأنك مُنحت تصديقًا عميقًا على ذاتك.
3. أن تشعر بوجودك
نحن كائنات اجتماعية، إذا أردت أن تشعر بأن وجودك وجود حقيقي ملموس ينبغي عليك الحصول على مقدار من التأكيدات الخارجية من شخص يفهمك. كتب مايكل شراينر: »الخوف المُتربص دائمًا بنا في اللاوعي يكمن غي كوننا غير مفهومين فنقترب من الاقتناع بأننا غير موجودين، تلك الفكرة مرعبة حقًا.«
4. أن تشعر بانتمائك
يربطك بالآخرين شعورك بإدراكهم لك، يتيح لك ذلك بأن تشعر بأنه مُرحب بك. وبالمقابل، يمكن للشعور بالوحدة والانفصال عمَّن حولك أن يؤلمك نفسيًا بشدة؛ مثل ما يتعرض له الكثير من الأطفال المهمشين والمنبوذين.
5. أن تشعر بأنك جزء من شيء ما أكبر بكثير من نفسك
نحتاج جميعًا أن نشعر بالانتماء إلى مجتمع مشابه لنا، ولو نسبيًا في طريقة التفكير. تساعدنا مثل هذه النظرة الواسعة لأنفسنا على جعل حياتنا ذات معنًى أكبرو هدف أسمى، كما تسهم في تعزيز إحساسنا بقيمتنا الذاتية.
6. أن تشعر بأنك مقبول
من نواحٍ عدة، يرتقي شعورك بأنك مفهوم إلى كونه اعترافًا اجتماعيًا بك وتأييدًا لك، حتى لو لم يُصرَّح بذلك لفظًا؛ فإن لغة الجسد وتعبيرات الوجه التي تبدر من أحدهم عندما تشاركه أمرًا ما تكون -في بعض الأحيان- مطمئنةً أكثر من الكلمات؛ فإبراز التعاطف بشتى الطرق وبالأسلوب الصحيح يدل ضمنًا على الفهم والاعتراف والدعم، ومهما تظن نفسك انطوائيًا فأنت بالأصل خُلقت اجتماعيًا؛ فلا أحد يستمتع بشعور الاستنفار من الآخرين أو بكونه وحيدًا.
7. أن تشعر أنك قادر
حالما تشعر بأنك مفهوم، فأنت لا تلتمس طريقك في ظلام حالك، فهناك أمور لن تتمكن من تحقيقها إلا عندما يستعد الآخرون لاحترامك والتعرف عليك وعلى نواياك، حينئذٍ يمكنك البدء بالسعى وتحقيق أهدافك تلك، إنها أهداف تبرز أهميتها لنا حينما نشعر أن الآخرين يعيرونها انتباهًا.
8. أن تفهم ذاتك أكثر
إن أخبرك أحدهم قائلًا:» حسنًا، بصيغة أخرى، من الواضح أنه يجب عليك أن تصدق كذا لأن كلامك يلمِّح ضمنًا إلى كذا«، من المحتمل جدًا أن تجد عرض وتلخيص أحدهم لما قلته هو في الحقيقة أعمق مما قد وصلت إليه.
بإضافة شيء من حدسهم وتجاربهم الشخصية إلى ما نطقت به ربما يمكنهم مساعدتك في تحسين فهمك بشكل أعمق وأكثر تشعبًا في دواخلك أكثر مما قد وصلت إليه.
9. أن تختبر علاقات أكثر راحةً
يدفعك شعورك بوجود شخص يفهمك إلى التواصل مع الآخرين بكل ما تحمله الكلمة من معنى، تظهر استعدادًا أكبر لتكون منفتحًا عليهم غير مُحاط بأسوار منيعة. أوضح كارل نصار المعالج النفسي الأمريكي ببلاغة قائلًا: «عندما نُفهم… نُظهر للآخرين ذواتنا على حقيقتها بسلبياتها وإيجابياتها، ويصبحون بدورهم غالبًا أكثر لينًا وصدقًا معنا، ذلك يدعِم التواصل… على مستوًى أعمق، ويعزز قوة علاقاتنا وفاعليتها«.
10. أن تكون بمنأًى عن غياهب الاكتئاب
يرتبط الاكتئاب ارتباطًا وثيقًا بالشعور بالعزلة والغربة، ولذلك ربما يقينا الإحساس بأننا مفهومون ومتواصلون مع من هم حولنا الانزلاق إلى تلك الحالة الموجعة المؤلمة، يُعتبر ذلك “ترياقًا مضادًا”.
الأساس العصبي
في عام 2014 نشرت مجلة Cognitive and Affective Neuroscience بحثًا يوضح أن شعورك بالفهم يزيد من سعادتك على المستوى الشخصي والاجتماعي، مدعمةً إياه بنتائج التجارب التي أجريت بهذا الصدد.
أُجري تصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI على دماغ المشتركين في التجربة، تلاحظ منها »تنشط مناطق في دماغ الشخص لمناطق عصبية مقترنة بإحساس المكافأة والتواصل الاجتماعي عندما يختبر شعورًا بأنه مفهوم، مناطق مثل: الجسم المخطط البطني Ventral Striatum ومنتصف فص الجزيرة Middle Insula ، وبينما اختبر هذا الشخص شعورًا بأنه غير مفهوم نشّط في دماغه مناطق عصبية مقترنة بمشاعر سلبية مثل: فص الجزيرة الأمامي «Anterior Insula.
وأيضًا، تزويد أدلة تجريبية داعمة للنقاط المذكورة هنا، تعزز الأبحاث المجراة مسبقًا في هذا المجال. وقد أضافوا: »يجعل شعور الشخص بأنه مفهوم يحس بقيمته واحترامه والتأكيد على ذاته… ويؤدي إلى إحداث تغييرات هامة في الخبرة العاطفية ومشاعر التواصل الاجتماعي«.
صورة للتصميم التجريبي لاختبار التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI توضح مثالًا على حالتي الفهم وعدم الفهم للمشارك في التجربة
التفاعلات العصبية المتباينة بين حالتي الفهم وعدم الفهم لدماغ المشارك في التجربة
وفي النهاية
هنالك اعتباران ختاميان يجدر ذكرهما هاهنا:
1. هل تقدم على عمل أقصى ما يمكنك عمله لجعلك شخصًا مفهومًا أكثر؟
ما نعنيه هو، ما مدى تحملك للمسؤولية إزاء كونك شخصًا يساء فهمه؟
على سبيل المثال: إذا تلقيت ردًا على رسالتك أو بريدك الإلكتروني يدل على أن الآخر لم يفهم إطلاقًا ما ظننت أنك قد أوصلته إليه، فربما ترغب في إعادة قراءة رسالتك مرة أخرى والتحقق عما إذا كنت قد اخترت الألفاظ الصحيحة التي تعبر عما دار في ذهنك.
وبوجه عام، لا يمكنك افتراض أنك ستُفهم دون أن تأخذ وقتًا للتأكد من أن العبارات التي تستخدمها واضحة وضوح الشمس، إن لم تحرص على فعل ذلك فإن أي سوء فهم يحدث هنا يقع على عاتقك أنت وليس على عاتق الطرف الآخر.
2. ما مدى معرفتك بذاتك (مميزاتك وقيمتك وميولك ودوافعك … إلخ)؟
إذا كنت ما تزال مشوشًا بشأن الإجابة على تساؤل »من أنت في الحقيقة؟» أو ما الذي تسعى إليه؟ فلا تتوقع أن يتمكن أي شخص آخر من فهم أمور ما تزال غير واضحة بينك وبين نفسك، أو أن يستوعب تلك الأمور التي ما زلت أنت مُشوَّش بشأنها.
في تلك الحالة، ربما تحتاج إلى البدء في رحلة البحث عن الذات واكتشافها، ربما تفعل ذلك بالاستعانة بعدد من الكتب في هذا المجال، وإن صعُب ذلك عليك، سيصبح سهلًا أكثر بالتحدث إلى معالج متخصص.
نهايةً عليك أن تتذكر أن معرفتك لذاتك تُعد أمرًا على نفس القدر من الأهمية من وجود شخص يفهمك .
اقرأ أيضًا:
حالة الحب في الدماغ فترة فريدة ومحددة وهذه 13 علامة تدل على أنك تعيشها
تأثيرات الوقوع في الحبّ على الدماغ والجسم
ترجمة: فابيان أيوب
تدقيق: عون حداد
مراجعة: آية فحماوي