في كل مكان ننظر إليه، يمكن رؤية تأثير الجاذبية، إذ تظهر في المسار الذي يسلكه القمر حول الأرض كل ليلة، وفي السقوط المفاجئ عند الانزلاق على رقعة جليدية على الرصيف.
تتحكم قوة الجاذبية في حياتنا اليومية، ويمكنها حتى مساعدتنا على اكتشاف تصادم الثقوب السوداء على بعد مليارات السنين الضوئية. مع ذلك، رغم أن الجاذبية لا غنى عنها على المستوى البشري وفي الكون، فإنها بالكاد تكون ملحوظة عندما نقيم العالم على المستوى الكمي.
لعدة عقود، حلم العلماء بالعثور على طريقة للتوفيق بين تأثيرات الجاذبية على المستوى الكلاسيكي والمستوى الكمي من خلال أفكار معقدة، مثل نظرية الأوتار أو الجاذبية الكمومية الحلقية.
قد تكون النظرية الموحدة للجاذبية هي المفتاح لحل أسئلة كبيرة أخرى في الكون أيضًا، مثل كيف بدأ الانفجار العظيم أو مما تتكون المادة المظلمة؟
في حين، كان لكل من الفكرتين مزاياهما الخاصة من الناحية النظرية، إلا أن القدرة الفعلية على اكتشاف التأثيرات الصغيرة للجاذبية في المستوى الكمي هي مسألة مختلفة تمامًا.
هنا يأتي دور البحث الجديد الذي نُشر في وقت سابق من هذا العام في مجلة Science Advances. في هذا العمل، صممت مجموعة بحثية من المملكة المتحدة وهولندا وإيطاليا تجربة حساسة للغاية، إذ يمكنها قياس قوة جاذبية تساوي 1 على كوينتيليون من النيوتن (على مقياس 1 أتو-نيوتن) على جسيم يزن 0.43 ملليغرام فقط.
للمقارنة، قوة جاذبية 1 نيوتن تعادل تقريبًا قوة الجاذبية التي تدفع تفاحة موضوعة على طاولة.
يقول الدكتور تجيرك أوستِركامب؛ أحد كبار مؤلفي هذه الورقة وأستاذ الفيزياء النظرية في جامعة ليدن في هولندا، إنه رغم أن قوة الجاذبية التي قاسها فريقه كانت على جسيم صغير جدًا -في الواقع، أصغر جسيم حتى الآن قيست مثل هذه القوة عليه- فإنه يؤكد أن هذا القياس ما زال «على بعد مليون ميل» من إثبات الجاذبية الكمومية.
«ما نقوله هو أن هذه خطوة في الطريق نحو قياس تأثيرات الجاذبية الكمومية» كما يوضح أوستِركامب.
قد تكون القدرة على قياس هذه التأثيرات خطوة مهمة أولى نحو فهم أوضح للجاذبية الكمومية، التي قد تكشف أسرارًا عن أصل الكون نفسه.
يمكن التفكير في تأثيرات الجاذبية بأنها تبدو مثل الموجات الصوتية، أي لاكتشاف ضوضاء أكثر هدوءًا، يجب أن يكون مسجل الصوت أكثر حساسيةً، ويحتاج إلى تصفية ضوضاء الخلفية. بالمثل، كلما كان الجسم أصغر، كانت قوة الجاذبية الخاصة به «أكثر هدوءًا».
«لسماع» قوة الجاذبية على الجسيم الذي يزن 0.43 ملليغرام، احتاج أوستِركامب وزملاؤه إلى تصميم تجربة للاستماع عن كثب مع تصفية الاهتزازات غير الجاذبية، مثل الحركة العشوائية للجسيمات التي تطن وتتصادم وتولد طاقة حرارية. كلما كانت التجربة أكثر برودةً، كانت الاهتزازات الشاردة التي يجب إزالتها أقل أيضًا.
لتحقيق ذلك، اعتمد الفريق على مجموعة من الأدوات لزيادة الحساسية بما في ذلك: ثلاجة مخففة (مماثلة لتلك المستخدمة في تبريد الحواسيب الكمومية) لتقليل الطاقة الحرارية، ونظام النوابض الكتلية لامتصاص الاهتزازات البيئية، و«فخ» فائق التوصيل لرفع الجسيم الصغير لعزله عن أية اهتزازات متبقية.
وُضعت كتلة مصدر ثانية تزن 2.4 كيلوغرام بالقرب من الجسيم لخلق قوة جاذبية للجسيم العائم، إذ تتطلب التجربة وجود جسمين لهما كتلة حتى تتمكن قوة الجاذبية لأحد المصدرين من التأثير في الآخر، تمامًا مثل الأرض والقمر.
وفقًا لأوستِركامب، فإن بناء هذا الجهاز للعمل في ظروف شديدة البرودة، قريبة جدًا من الصفر المطلق أو 273.15- درجة مئوية تحت الصفر، هو ما يميز هذه النتيجة. وللسبب عينه أيضًا، اعتقد العالم أن التجربة ربما لن تحدث من الأساس.
يقول أوستِركامب: «كان من غير المتوقع أن هذا سيحدث فعلًا». لقد عرض العالم جهوده على زميل متقاعد عندما زار المختبر، ورأى كل هذه الكتل والنوابض معلقة من هذا اللوح البارد جدًا في الثلاجة التخفيفية، وسأله: «لماذا تتوقع أنه يمكنك تبريد شجرة الميلاد هذه؟».
بسبب هذه الاحتياطات لإزالة الاهتزازات الزائدة، تمكن الفريق من قياس قوة جاذبية قدرها 30 أتو-نيوتن على جسيم الاختبار العائم.
يقول ياسونوري نومورا؛ الأستاذ الدكتور في الفيزياء النظرية في جامعة كاليفورنيا في بيركلي، ويعمل على النظرية الكمومية والجاذبية الكمومية، إنه في حين أن هذا التصميم التجريبي قد يؤدي دورًا في عزل قوى الجاذبية على الجسيمات الأصغر، فما زال يواجه قيودًا عند محاولة قياس الجاذبية الكمومية نفسها.
يقول نومورا: «يُعد هذا القياس خطوة نحو رصد قوى الجاذبية في نظام كمي حقيقي». مع ذلك، تبقى هناك نقطة شائكة؛ وهي الاعتقاد بأن تأثيرات الجاذبية الكمومية تصبح مهمة فقط عند مقاييس صغيرة جدًا.
يقول نومورا: «الوصول إلى هذه المقاييس بالتقنيات الحالية، بما في ذلك رفع كتلة صغيرة في فخ فائق التوصيل، هو أمر مستحيل»، ويضيف قائلًا: «قد تكون هناك طرق أخرى لقياس الجاذبية الكمومية تتجنب قياس الجسيمات الصغيرة مباشرةً».
رغم أن كاشف الجاذبية الخاص بأوستِركامب قد لا يقيس تأثيرات الجاذبية الكمومية في أي وقت قريب، فإنه يأمل أن يؤدي دورًا في الكشف عن تأثيرات الجاذبية الكبيرة بدلًا من ذلك. على وجه الخصوص، يأمل في استخدامه بصفته أداةً لزيادة حساسية التجارب التي تبحث عن موجات الجاذبية؛ وهي التأثيرات المتبقية في الزمكان من أحداث الجاذبية الكبيرة، مثل تصادم الثقوب السوداء.
بدأت بالفعل تجارب مثل مرصد موجات الجاذبية بالليزر (LIGO) في الولايات المتحدة، ومرصد موجات الجاذبية في إيطاليا (VIRGO) في اكتشاف هذه التموجات بقياس تغييرات صغيرة جدًا في مسار الليزر عبر عدة كيلومترات.
يقول أوستِركامب: «نأمل في بناء خليفة لـ LIGO/VIRGO، الذي يُسمى تلسكوب أينشتاين». من المقرر بناء هذا التلسكوب في أوروبا في منتصف ثلاثينيات القرن الحالي، وسيكون بمثابة كاشف لموجات الجاذبية من الجيل التالي. يضيف أوستِركامب قائلًا: «يمكنهم -فريق LIGO/VIRGO- أن يعلمونا المزيد عن الاهتزازات الأقل، ونخبرهم بما نعرفه عن تبريد الأشياء».
رنا أديكاري، الأستاذة الدكتورة في الفيزياء في معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا والمساهمة في LIGO، توافق على أن تعلم كيفية تقليل الاهتزازات بالتبريد سيؤدي دورًا مهمًا في أجهزة كشف موجات الجاذبية المستقبلية.
تقول رنا أديكاري: «الجزء الأكثر إثارةً للاهتمام [في هذا العمل] هو كيف استطاعوا خفض درجة الحرارة إلى هذا الحد، مع الحفاظ على ضوضاء التسارع منخفضة»، وتضيف قائلة: «أجهزة كشف موجات الجاذبية المستقبلية التي تعمل [في ظروف باردة] ستحتاج إلى البناء على أساس هذا العمل. إن القدرة على العمل في درجة حرارة منخفضة جدًا ستلغي تقريبًا جميع مصادر الضوضاء الديناميكية الحرارية التي نواجهها».
رغم أن عمل أوستِركامب قد لا يمهد طريقًا واضحًا نحو قياس الجاذبية الكمومية، فإن أديكاري تقول إنه من المحتمل أن يكون أحد أجزاء الأحجية العديدة التي ستفتح هذا الاكتشاف العلمي الذي يغير العالم.
تقول أديكاري: «هذا [العمل] هو مثال رائع على كيفية أن الابتكار التجريبي قد يؤدي إلى إجراء قياسات للكون بطريقة جديدة»، وتضيف قائلة: «الطريق نحو الجاذبية الكمومية سيكون مزينًا بتجارب ذات حساسية متزايدة باستمرار».
اقرأ أيضًا:
هل يمكن أن توجد الجاذبية خارج حيّز المادة؟ دراسة غريبة تعتقد ذلك!
الجاذبية بين نجمين يدوران حول بعضهما؛ ظاهرة كونية تعجز قوانين الفيزياء عن تفسيرها
ترجمة: حمداش رانية
تدقيق: منال توفيق الضللي
مراجعة: هادية أحمد زكي