إن كان بمقدرة كلمة واحدة أن تصف الشعور بالعُطلات الشتوية، فهي بالتأكيد «توهّج»، فالكلمة نفسها توحي بالراحة والدفء.
تحثّنا العطلات الشتوية على إضاءة الشموع، تشغيل المَوقِد، وإنارة تلك الإضاءات التي تتخلّل الأغصان وتنير أكثر أيام السنة ظلامًا، كما أنها تُشجِّع أيضًا على الرغبة في تبادل الهدايا.
يمنحنا تقديم الهدايا ذلك الشعور بالراحة والسعادة، حتى أنَّ علماء الاقتصاد يُطلقون عليه «الشعور المتوهِّج بالكرم».
لكن كما أنَّ النيران المُبهجة لها ظلال، هناك جانب مظلم للشعور بالتوهج. أشار عالم الاقتصاد (جيمس أندريوني – James Andreoni) -والذي صاغ المصطلح- إلى أن الشعور بالدفء الناتج عن العطاء يؤدي في نهاية المطاف إلى الشعور بالأنانية. فإن كان العطاء يجعل شعورك ممتعًا، فما مدى سخاء هذا الشعور؟ ربما تقديم الهِبات هو فقط طريقة أخرى لاستخدام الآخرين كي نشعر بالرضا عن أنفسنا.
لا يمكن إنكار تدفق المشاعر الإيجابية المصاحبة لتقديم الهِبات. حين أعطى الباحثون مبلغًا بسيطًا من المال لمشاركين اختيروا بعشوائية، أقرّ بأن أولئك الذين أنفقوا المال على شخص آخر شعروا بسعادة أكثر من الذين أنفقوه على أنفسهم.
حتى الأطفال بعمر سنة وسنتين يشعرون بسعادة أكبر عند إعطاء الدمى قطعة حلوى بدلًا من أخذ الهدايا لأنفسهم.
وإن أزلت الشعور بالتوهج بتعويض الناس عن الهدايا –والذي يحوّل العطاء إلى صفقة تجارية– فسوف يقل السخاء.
ربطت أبحاث علم الأعصاب الشعور بالتوهج الناتج عن العطاء بنشاط يتم في منطقة بالمخ تسمى (النواة المُتكئة – nucleus accumbens)، حيث يتم إفراز الناقل العصبي: الدوبامين، ما يؤدي إلى الشعور بالنشوة والسعادة، والرغبة في تكرار ما كان يسبب هذا الشعور، وهذا ما يجعل الدوبامين هو العامل الأساسي للإدمان.
على سبيل المثال: يؤدي الكوكايين أيضًا إلى زيادة الدوبامين. سيكون من المبالغة تشبيه العطاء بالإدمان، ولكن الشعور الناتج عن العطاء يحثّ الناس على العطاء أكثر وأكثر ما يؤدي إلى ارتفاع نسبة السخاء، وبالتالي زيادة المكافآت.
يمكن أن تدفع هذه النتائج الإيجابية بالكرم إلى أعلى مراتب الإلهام، فقد أدى تدفق المشاعر غير المتوقع الذي شعر به بيل جيتس أثناء رحلته إلى أفريقيا بالتسعينات عندما أعطى حواسيب للأطفال إلى إنشاء مؤسسة جيتس العظيمة التي نعرفها الآن، كما أن تأثُّر رجل الأعمال (روب ماثر – Rob Mather) بتجربة جمع الأموال لمساعدة طفل مصاب أدّت إلى إنشاء مؤسّسة لمكافحة الملاريا، والتي جمعت أكثر من 140 مليون دولار ووُصِفت بأنها من أكثر المؤسسات الخيرية فعالية بالعالم.
في عملنا، أجرينا مقابلات مع عشرات ممّن هم معروفون بشدة سخائهم بالعالم –أولئك الذين تبرعوا بإحدى كليتيهم لأشخاص لا يعرفونهم– ومعظمهم تقريبًا بدؤوا كمتطوعين أو متبرعين بالدم.
بالنسبة إليهم جميعًا، يقولون أن تبرّعاتهم هذه جلبت لهم شعورًا غامرًا بالسعادة، وأنهم سوف يكرّرون ذلك مجدّدًا قدر استطاعتهم. كما أخبرنا أحد المؤثِرين: «هناك نشوة مصاحبة لحياة التبرّع والتي من الصعب وصفها بدون أن أبدو مجنونًا».
من منظور نفعي، هو ليس جنونًا على الإطلاق. لا يمكن إنكار أنَّه من الجيد أن العطاء يؤدي إلى الشعور بالسعادة، كما أنَّه يحثّ على استمرار العطاء، لكن ربما العطاء بالفعل يؤدّي إلى الأنانية.
تجادل أندريوني وآخرون بخصوص المكافآت العاطفية الناتجة عن العطاء والتي تسلب القيمة الحقيقية، فربما يكون أولئك الذين يقدمون الكثير من الهِبات هم الأكثر أنانية ويهدفون فقط إلى اندفاع الدوبامين، وربما لا.
وجدت مراجعة حديثة أن النرجسيين –الذين هم بالفعل أنانيون- أقل سخاءً من غيرهم، وأنهم عندما يقدّمون هدية، فذلك فقط لإبهار الناس أو التأثير عليهم، لا لأنهم يهتمون بأمر أحد على الإطلاق.
ويبدو هذا منطقيًا.
إن كان العطاء يدور فقط حول الشعور الجيد، فالشخص الأناني بحق كان سيختار طريقًا أسهل وأقل تكلفةً للحصول على نفس النتيجة، فالدوبامين أيضًا يُفرَز بتناول الشوكولاتة أو إقامة علاقة جنسية.
الاحتمال الآخر هو الاستمتاع بمساعدة الآخرين، وهو ما يعنيه أن تكون سخيًّا.
فكر فيها بهذه الطريقة: هل تعتبر الشخص الذي يتغنّى بتقديم الهبات أقل أنانية من الشخص الذي يشعر بالسعادة لذلك؟ بالطبع لا، كما يقول الراهب البوذي وعالم الأعصاب (ماثيو ريكارد – Matthieu Ricard): «الحقيقة وراء شعورنا بالرضا عند الإيثار هو أننا لدينا الميل الفطري إلى تفضيل سعادة الآخرين. إذا كنّا لا نبالي على الإطلاق بمصير الآخرين، فلماذا نشعر بالسعادة عندما نهتم بهم؟».
حدّد البحث بعض العمليات الدماغية التي من المفترض أنها تجعلنا نشعر بالسعادة بصورة طبيعية عند المساعدة.
على سبيل المثال، في حالة المتطوعين الذين تبرعوا بإحدى كليتيهم لغرباء، هناك أجزاء من الدماغ مسؤولة عن الرعاية الوالدية مثل (اللوزة الدماغية – amygdala) وجزء من (المادة الرمادية بالمخ – periaqueductal gray) تزداد حجمًا وتترابط بكثافة فتكون متجاوبة مع احتياجات الآخرين.
توصّلت الدراسات على الحيوانات إلى أن إطلاق هرمون الرعاية -(الأوكسيتوسين – oxytocin)- بهذه المناطق من الدماغ خلال رعاية الآخرين هو المسؤول عن زيادة الدوبامين فيما بعد، وبالتالي فإن طبيعتنا الفطرية هي التي تحثّنا على مساعدة الآخرين، وهذا الشعور الجيّد ما هو إلّا نتيجة حظّية ومتوقعة للعطاء ولكنها ليست الغاية، وذلك تمييز حاسم.
بتعبير آخر: لا تتردّد أبدًا في تحقيق الشعور بالدفء والتوهّج الناتج عن تقديم الهِبات في هذه العطلة، فهذا الشعور الذي تستمتع به -والذي لا يجب أن يغيب- هو السمة المميزة للسخاء.
- ترجمة: منار سعيد
- تدقيق: علي فرغلي
- تحرير: صهيب الأغبري
- المصدر