مطاردة الطاقة المظلمة
قد تبدو المهمة مستحيلة. كيف يمكنك الكشف عن قوة لا تعرف عنها اي شيء تقريبا؟ لكن هذا ما يحاول العلماء بالضبط القيام به, لفهم الطاقة المظلمة (القوة المراوغة المسؤولة عن توسع الكون) من خلال اجراء تجربة تعيد ظروف الفضاء العميق في المختبر. ساهم باول هاملتون Paul Hamilton من جامعة كاليفورنيا في لوس انجلوس مع زملائه في تضييق نطاق البحث. قال عالم الكونيات ديفيد باركنسون David Parkinson من جامعة كوينزلاند University of Queensland: “ان الدراسة التي نشرت في مجلة العلوم في اغسطس كانت رائعة وان تنفيذها كان جيداً للغاية.” على الرغم ان الفريق لم ينجح بالكشف عن الطاقة المظلمة لكن النتائج ساهمت باستبعاد الامور البعيدة عن ماهية الطاقة المظلمة. اعتقد علماء الكونيات, حتى بداية التسعينيات, بان الكون اما يتوسع بمعدل ثابت او بتباطؤ. لكن العمل الحاصل على جائزة نوبل بواسطة فريقين في 1998 وجد بان توسع الكون يتسارع, وان القوة المجهولة وراء هذه الظاهرة كان يطلق عليها الطاقة المظلمة Dark Energy.
محاولات الكشف عن الطاقة المظلمة في المختبر بلا جدوى
طبقا لحسابات الفيزيائيين فان الطاقة المظلمة تشكل حوالي 70% من مكونات الكون, بينما تشكل المادة المظلمة اكثر من ربع مكونات الكون, اما المادة الطبيعية التي تتكون من ذرات فلا تشكل سوى 4.9% من مكونات الفضاء. بغض النظر عن ذلك تبقى المادة المظلمة لغزاً محيراً, لم يتم الكشف عنها مباشرة لكن علماء الكونيات بامكانهم افتراض خصائصها فقط. احدى مدارس الفكر تبنت ما افترضه اينشتاين اول مرة في نسخة مبكرة من نظريته عن الجاذبية: “ان الطاقة المظلمة هي ثابت كوني وهي خاصية الفضاء الفعلية التي تدفع المجرات بعيداً.” بما ان الطاقة المظلمة تدفع المجرات بعيدا لذا تبدو انها عديمة التأثير على الارض. يبدو انها لا تدفع المجموعة الشمسية بعيداً على سبيل المثال. وقد ألهمت هذه المشكلة الى نظرية بديلة للطاقة المظلمة, في عام 2014 اقترح الباحث المشارك في الدراسة جوستين خوري Justin Khoury جنبا الى جنب مع زميله في جامعة كولومبيا اماندا ويلتمان Amanda Weltman, بان قوة الطاقة المظلمة تتغير وفقاً لكثافة المادة الموجودة حولها, وبسبب طبيعتها المتغيرة أُطلق على نظرية الطاقة المظلمة هذه “المجال المتقلب chameleon field”.
تعمل النظرية في مساحات شاسعة من الفضاء الفارغ بين المجرات, ويبذل المجال المتقلب قوة عبر بلايين السنين الضوئية دافعاً المادة بعيداً, لكن في المساحات التي تكون فيها المادة متراصة بكثافة كالمجموعة الشمسية على سبيل المثال, فليس للمجال المتقلب تأثير ملحوظ. هذا يفسر لماذا تكون محاولات الكشف عن الطاقة المظلمة مختبرياً بدون جدوى.
في العام الماضي افترضت كل من الفيزيائية البريطانية كلير بيرغ Clare Burrage, و ادموند كوبلاند Edmund Copeland, و ادوارد هيندز Edward Hinds طريقة لاصطياد قوة المجال المتقلب مختبرياً. حيث اقترحوا استخدام جهاز فائق الحساسية يدعى “مقياس التداخل الذري atom interferometer” لغرض اعادة تكوين الكثافة المنخفضة الموجودة في الفضاء العميق.
كانت تعليماتهم واضحة جدا: تهيئة غرفة مفرغة من الهواء بقطر20سنتيمتر, ثم وضع كرة معدنية في الداخل بعرض 2سنتيمتر, يتم سكب غيمة ذرية كثيفة من اعلى الغرفة باتجاه الكرة, ومن ثم حساب تسارع الذرات بعد 10-20 ملي ثانية من السقوط الحر للذرات باستخدام الليزر. اذا كان المجال المتقلب موجود ينبغي ان تسقط الذرات بجوار الكرة المعدنية بسبب كثافة المادة الموجودة في الكرة. وكلما تقترب الذرات من الكرة فان سقوطها يسرع اكثر.
يقول باركنسون: “لو كنا نملك وسائل كافية سنكون قادرين على رؤية الطاقة المظلمة في المختبر.” مضيفاً “ان تصميم التجربة كان شيئاً جديداً للغاية.” بالوقت الذي كانت فيه بيرغ لا تملك هكذا جهاز قامت هي وزملائها بوضع خطة لبناء جهاز جديد. لكنهم هُزِموا بواسطة هاملتون الذي ادرك خلال قرائته للورقة البحثية في استراليا في اغسطس الماضي بانه قد اكمل جهاز التداخل الذري بهذه الابعاد وانه جاهز للعمل. قام هاملتون الذي كان في حرم بيركلي في جامعة كاليفورنيا والباحث المشارك هولجر مولر Holger Müller المتخصص في الاجهزة عالية الحساسية, بصنع جهاز التداخل الذري المستخدم في الدراسة قبل 5 سنوات. الجهاز قادر على قياس القوى الضعيفة جداً بدرجة أصغر من قوة الجاذبية التي تؤثر على ذرة واحدة بمليون مرة. قام هاملتون بتبريد سحابة رقيقة من ذرات السيزيوم caesium لدرجة انها اصبحت ساكنة تماماً, ومن ثم سكبها على كرة الالمنيوم وقام الفريق بقياس سقوط الذرات بالليزر. لكنهم لم يلاحظوا اي شيء, حيث سقطت الذرات وكانه لا يوجد مجال متقلب على الاطلاق, كان تعجيل الذرات مطابق تماما لتعجيل الجاذبية لوحدها.
قام الفريق بقياس سرعة الذرات الساقطة على جانب الكرة, للتحقق من النتائج مرة اخرى, لو كان المجال المتقلب موجود, من المفترض ان يشعروا بتأثيره اثناء سقوط الذرات, وعليه يجب ان يكون السقوط ابطأ مما لو كان مباشراً على الكرة, لكن السقوط كان بنفس السرعة تماماً. احد الاحتمالات هو ان المجال المتقلب ضعيف جدا للكشف عنه بواسطة هكذا جهاز.
قام مولر وزملائه بتثبت ليزر اكثر حساسية ومقياس للهزات الارضية الذي يكشف ادق الاهتزازات التي قد تصدر خلال التداخل الذري. في نفس الوقت تتسابق بيرغ وزملائها لاكمال جهازهم فائق الحساسية. قال مولر ان التجربة في نهاية المطاف ستكون بارسال الجهاز الى الفضاء, لان الذرات تستغرق اجزاء من الثانية للسقوط الحر, نتيجة تأثير الجاذبية الارضية, لكن عند انعدام الجاذبية بامكان ذرة واحدة ان تحوم فوق كرة الالمنيوم وتسير خلال ساعات او ايام لمعرفة فيما اذا كانت مسحوبة ام لا. وتم تهيئة الورقة البحثية من وكالة ناسا بعنوان “ripples of interest” لاجراء التجربة. يقول مولر: “هذا هو سحر الفيزياء الذرية, انها المجال الذي تتحرك فيه الاشياء بسرعة!”
هوامش:
ما هي الطاقة المظلمة؟:
في علم الكون وفيزياء الجسيمات ، الطاقة المظلمة أحد الأشكال الافتراضية للطاقة التي تملأ الفضاء والتي تملك ضغطاً سالبا. وفق النسبية العامة، تأثير مثل هذا الضغط السالب يكون مشابهاً لقوة معاكسة للجاذبية في المقاييس الكبيرة. افتراض مثل هذا التأثير هو الأكثر شعبية حاليا لتفسير تمدد الكون بمعدل متسارع، كما يشكل تفسيرا معقولا لجزء كبير من المادة المفقودة missing mass في الفضاء الكوني.
ماهيتها Quintessence:
بالنسبة إلى ماهية الطاقة المظلمة فيحيطها الغموض، إلا أنه يعتقد أن ترايد سرعة تمدد الكون المشاهدة يعود على طاقة وضع لمجال غير متجه ويسمى هذا المجال غير المتجه مجال كوينتيسينس.
ويختلف مجال الكوينتيسيسنس عن الثابت الكوني لأينشتاين في أنه قابل لتغيير في الزمان والمكان. ولكي لا يتراكم ولا يتخذ أشكالا بنائية مثلما تفعل المادة، فيجب أن يتصف هذا المجال بالخفة وطول موجة كومبتون طويلة.
ولم يكتشف مجال الكوينتيسينس بعد ولكن يميل ببعض العلماء إلى الاعتقاد بوجوده. وافتراض وجود مجال الكوينتيسينس يسمح بمعدل أقل لتمدد الكون عن تأثير الثابت الكوني. وتفترض أحد النظريات renormalization theory أن المجالات غير المتجهة لا بد وأن يقترن بها كتل كبيرة.
ويتساءل بعض العلماء لماذا حدث تسارع في سرعة تمدد الكون في وقت حدوثها، فإنه إذا افترض وحدث تسارع تمدد الكون في زمن قبل ذلك لما استطاعت المجرات أن تتكون، إذ لم يكن لها وقت كاف لكي تتكون ولا يمكن بالتالي وجود الحياة في الكون، أو لا يمكن للحياة التكون في صورتها الحالية على الأقل كون.
وفي عام 2004 عندما حاول بعض العلماء الربط بين تطور الطاقة المظلمة والقياسات الكونية فتبين لهم أنه من الممكن ان تكون معادل الحالة للكون قد عبرت نطاق الثابت الكوني (w=-1) من قيمة موجبة إلى قيمة سالبة.ويعتقد بعض العلماء بأن الطاقة المظلمة تطورت مع الزمن بحيث زادت كثافتها.ولا يزال البحث جاريا لمعرفة الحقيقة.
المراجع والمصادر: