في مواجهة الانكماش السكاني، تحاول العديد من الاقتصادات الرائدة عالميًّا تصميم طرق لرفع نسب الولادات.
مثلًا، اعتمد صناع السياسات في كوريا الجنوبية واليابان وإيطاليا الإجراءات المشجعة على الإنجاب، تتراوح هذه الإجراءات بين إعفاءات جبائية، وإعانات لعلاجات العقم وصعوبات الإنجاب، وامتيازات سكنية للأزواج ممن لديهم أطفال.
إن نسب الولادات المنخفضة أو حتى المرتفعة ليست مشكلة في حد ذاتها، بل يُنظر إليها بوصفها سببًا أو عاملًا مساهمًا في مشكلات أخرى، فنسب الولادات المنخفضة يصاحبها تباطؤ في النمو الاقتصادي وهرم أعمار عريض القمة. أما ارتفاع نسب الولادات، فيعني استنزاف الموارد وتدهور الوضع البيئي.
إن تغيير نسب الولادات أمر بالغ الصعوبة، والمجهودات المبذولة للتأثير فيها غالبًا ما تصبح قهرية للمواطنين، وإن لم تكن كذلك في البداية.
يعلم خبراء الديموغرافيا والسكان أن مثل هذه المجهودات عادةً ما تكون غير ضرورية، فمحاولة التلاعب بمعدلات الخصوبة وسيلة غير فعالة لحل مشكلات اجتماعية وبيئية واقتصادية يمكن التعامل معها بطرق أفضل، بوضع الضوابط وإعادة التوزيع في أغلب الحالات.
حركة إنجابية جديدة:
وفق السيناريو الأرجح، سيبلغ عدد سكان العالم أقصاه بحلول سنة 2084، وسيُقدر بنحو 10.3 مليار نسمة، أي تقريبًا أكثر بملياري نسمة من تعداد السكان الحالي، ثم من المتوقع أن يتوقف عدد سكان العالم عن النمو، ومن المرجح أن يتقلص إلى أقل بقليل من 10.2 مليار نسمة، بحلول عام 2100.
تجاوزت العديد من البلدان هذا المنعطف بالفعل، إذ يُتوقع أن ينخفض عدد سكانها خلال العقد القادم. أثار ذلك مخاوف بين الاقتصاديين حيال النمو الاقتصادي وإعالة كبار السن في بعض البلدان. في بعض الحالات، أثار مخاوف وطنية بشأن «الاستبدال» من طريق الهجرة.
منذ سنة 2019، اعتمدت 55 دولة، خصوصًا في آسيا وأوروبا والشرق الأوسط، سياسات واضحة تهدف إلى رفع نسب الولادات.
لا تقدم الولايات المتحدة تخفيضًا ضريبيًا عند إنجاب الأطفال، مع ذلك ليس لديها سياسات تهدف مباشرةً إلى رفع نسب الولادات، ذلك وفقًا لمعطيات الأمم المتحدة التي تتتبّع السياسات السكانية حول العالم.
مع ذلك، ظهرت في السنوات الأخيرة حركة إنجابية جديدة استُلهمت من مجموعة أيديولوجيات، تتضمن العنصرية ومعاداة المهاجرين والنيوليبرالية والإيثار الفعال والنزعة طويلة الأمد.
من الأصوات المنادية بسياسات مشجعة على الإنجاب، رجل الأعمال إيلون ماسك، والمؤثران مالكولم وسيمون كولينز، اللذان يحذران من كون البشرية على حافة الانهيار.
أشار المرشح الرئاسي الجمهوري دونالد ترامب إلى عزمه تقديم حوافز للنساء لإنجاب أطفال أكثر، في حين يُعد شريكه في الترشح جي دي فانس من الأصوات النادرة في الكونغرس التي تحذر من انخفاض الولادات في الولايات المتحدة.
أطفال جدد لحل مشكلات قديمة:
الحركة الإنجابية قائمة على اعتقاد مضلل بالأساس، إذ تقوم على فكرة أن النمو الاقتصادي يحتاج إلى كتل سكانية أكبر لتحفيزه، وأن هذا ضروري لإخراج الأفراد والمجتمعات من الفقر.
لكن مع غياب التدخل المباشر للدولة، تتركز هذه الثروة الزائدة في أيدي أصحاب الدخل المرتفع بالأساس، وعادةً ما يكون ذلك على حساب العمال والمستهلكين.
من وجهة النظر هذه، تصبح النزعة الإنجابية أشبه بمخطط بونزي، إذ يعول على الوافدين الجدد لكي ينتج عوائد للمستثمرين الأقدم. ويقع الحمل الأثقل على النساء بالأخص، فهن المسؤولات عن العبء الأكبر في الإنجاب وتربية الأطفال، ولا يحصلن عادةً على الرعاية الطبية الملائمة أو على خدمات رعاية الأطفال بتكلفة معقولة.
تدخل الحكومة في الإنجاب:
لمدة قرن من الزمن تقريبًا، استعملت الحكومات إمكانية الوصول إلى وسائل تحديد النسل والإجهاض، بوصفها أدوات لمحاولة تعديل نسب الولادات لكن في الاتجاه المعاكس، أي جعل تحديد النسل والإجهاض متاحًا أكثر، وغالبًا الضغط على الأشخاص الذين يريدون إنجاب المزيد من الأطفال لاستعمال هذه الوسائل، وذلك عندما كانت نسب الولادات مرتفعة أكثر من اللازم.
طُبقت هذه السياسات في بلدان عديدة في الفترة بين الستينيات والتسعينيات لتحفيز النمو الاقتصادي. سياسة الطفل الواحد في الصين هي المثال الأكثر تطرفًا. المفارقة أن ارتفاع نسبة الولادات كان يُعد عائقًا أمام التقدم الاقتصادي، أما اليوم فيُعد انخفاض نسبة الولادات عبئًا على النمو الاقتصادي.
يشير المدافعون عن بذل مجهودات في اتجاه خفض نسبة الولادات إلى الآثار الإيجابية لخدمات تحديد النسل. لكن يحذر الناقدون من أن تحويل الرعاية الصحية الإنجابية إلى أداة -أي تقديمها بوصفها وسيلة لإبطاء النمو السكاني بدل أن تكون غاية في حد ذاتها- يجعلها عرضةً لتحكم الحكومات فيها إذا اعتبرت النمو السكاني بطيئًا للغاية.
بالفعل، فإن العديد من البلدان التي تضع قيودًا على وسائل منع الحمل والإجهاض، ومنها كوريا الجنوبية وإيران، كانت تشجع سابقًا على استعمال هذه الوسائل للحد من نسب الولادات لديها.
سنة 1968، أعلن المؤتمر الدولي لحقوق الإنسان عن حق الأزواج في تحديد عدد أطفالهم والمباعدة بينهم. آنذاك، كان النمو السكاني في العالم في أوجه، بنسبة تتجاوز 2% في السنة.
لكن إذا كان التحكم في الحياة الإنجابية من الحقوق الأساسية للبشر، يستتبع ذلك أن على الحكومات حماية ذلك الحق سواءً كانت نسبة الولادات منخفضة أم مرتفعة. على هذا ينبغي لصُناع السياسات استعمال وسائل أخرى لتحقيق أهدافهم الاجتماعية والاقتصادية.
قد تكون هذه الوسائل المباشرة فعالة. في الولايات المتحدة مثلًا، لوحظ أن نسبة الفقر لدى الأطفال انخفضت للنصف خلال جائحة كوفيد 19، وذلك نتيجة التخفيضات الضريبية، ولم ترجع إلى مستواها السابق للجائحة إلا عندما ألغى الكونغرس التخفيض الضريبي.
تأثيرات محدودة على نسب الولادات:
حتى الآن، ركزت السياسات المُشجعة على الإنجاب غالبًا على توجيه الدعم إلى تكاليف العناية بالأطفال، ومساعدة الآباء على الاستمرار جزءًا من القوى العاملة.
مع أن هذه السياسات مفيدة للأطفال، فإن تأثيرها في نسب الولادات محدود. مثلًا، قانون العائلة سنة 2020 بإيطاليا -وهو برنامج شامل يوفر المنح العائلية، ويزيد مدة إجازة الأبوة، ويكمل رواتب الأمهات، ويدعم كلفة رعاية الأطفال- لم يرفع نسبة الخصوبة في البلاد.
مع استمرار انخفاض معدلات الخصوبة، وتزايد القلق الشعبي بشأن الانهيار السكاني، بدأت الحكومات اتخاذ إجراءات صارمة. إضافةً إلى دعم تقنيات الإنجاب المساعدة، منعت كوريا الجنوبية الإجهاض عام 2005. أما مجلس الدولة الصيني فقد أعلن مؤخرًا هدف «الحد من حالات الإجهاض غير الضرورية طبيًا»، بزعم أن ذلك بهدف تحسين أوضاع النساء.
وفرضت إيران قيودًا شديدة على الإجهاض والتعقيم ومنع الحمل، مُعلنةً أن الغرض من ذلك زيادة نسبة الولادات.
الاقتراض من المستقبل:
الداعمون لتشجيع الإنجاب، الذين ينفون عن أنفسهم أي غاية عنصرية أو عرقية أو دينية -خاصةً في الولايات المتحدة- يجادلون عادةً من منطلق اقتصادي.
حجتهم في ذلك أن تراجع مستويات الخصوبة ينتج هرمًا عمريًا عريض القمة. يعني ذلك حصول عدد أكبر من كبار السن على أموال الضمان الاجتماعي، مقارنةً بعدد الأشخاص العاملين الذين يتحملون تكاليف هذه المنظومة.
يتوقع الخبراء عجز منظومة الضمان الاجتماعي عن الاستمرار والإيفاء بمتطلباتها. لكن في الحقيقة، لا تحتاج الولايات المتحدة إلى المزيد من الأطفال للحفاظ على استمرارية الضمان الاجتماعي، بل بإمكان صُناع السياسات زيادة عدد السكان في سن العمل، بواسطة سياسات داعمة للهجرة، وبإمكانهم أيضًا زيادة حجم الأموال المتدفقة إلى صناديق الضمان الاجتماعي برفع سقف دخل المساهمات في هذه الصناديق.
تستطيع الحكومات توفير التعليم ووسائل منع الحمل والخدمات الصحية الأخرى، ليس لتقليص نسبة الولادات، بل لأن هذه العناصر أساسية لمجتمع تقدمي وعادل. يمكنها أيضًا توفير إجازات وإعفاءات ضريبية للوالدين ورعاية عالية الجودة للأطفال، ليس لزيادة نسب الولادات، بل لأن ذلك يساعد الأطفال في الحصول على أفضل بداية ممكنة في الحياة.
من هذا المنظور، نرى أن الحركة الإنجابية تُقدم وعودًا رنانة جوفاء فيما يتعلق بحل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها سكان بلد ما بسبب زيادة عدد السكان. غير أن ذلك يعني فعليًّا الاقتراض من المستقبل لسداد ديون الماضي.
اقرأ أيضًا:
ما أثر النمو السكاني على التنمية الاقتصادية؟
انكمش عدد سكان الصين مرة أخرى ويمكن أن يزيد عن النصف، فما الذي يعنيه ذلك؟
ترجمة: زياد نصر
تدقيق: نور حمود