كانت مارغريت تاتشر (1925-2013) أول امرأة تتولى منصب رئيس وزراء المملكة المتحدة بين عامي 1979 و1990، قلَّصت في فترة حكمها نفوذ نقابات العمال وقررت خصخصة بعض الصناعات وخفضت المساعدات المالية العامة وغيرت قواعد اللعبة السياسية، مثلما فعل حليفها الاستراتيجي وصديقها الرئيس الأمريكي رونالد ريغان.
عارضت تاتشر التي عُرفت باسم (المرأة الحديدية) الشيوعية السوفيتية وخاضت حربًا للاحتفاظ بالسيطرة البريطانية على جزر فوكلاند، كانت فترة حكمها رئيسةً لوزراء بريطانيا هي الطولى في القرن العشرين، تعرَّضت تاتشر في النهاية لضغوطات من أعضاء حزبها المحافِظ لتقديم استقالتها.
مارغريت تاتشر: السنوات الأولى
ولدت مارغريت هيلدا روبرتس -التي أصبح اسمها لاحقًا مارغريت تاتشر- في 13 أكتوبر سنة 1925، في بلدة صغيرة تسمى غرانثام في لينكونشاير في إنجلترا، كان والداها ألفريد وبياتريس صاحبي متجر من الطبقة المتوسطة ومن الأتباع المخلصين للطائفة الميثودية وهي طائفة مسيحية بروتستانتية، كان والدها سياسيًا أيضًا إذ كان عضوًا في مجلس المدينة مدة 16 عامًا قبل أن يصبح عضوًا بالمجلس المحلي سنة 1943 وعمدة لغرانثام سنة 1945 – 1946.
التحقت تاتشر بجامعة أكسفورد سنة 1943 في ذروة الحرب العالمية الثانية، ودرست الكيمياء وانضمت إلى رابطة اتحاد المحافظين في أكسفورد، وأصبحت أول رئيسة له سنة 1946. عملت بعد تخرجها باحثةً كيميائية، لكن السياسة كانت شغفها الحقيقي، فترشحت سنة 1950 لعضوية البرلمان عن دائرة دارتفورد التي كان أغلب نوابها من حزب العمال. وكان شعار حملتها «صوتوا لليمين للحفاظ على ما تبقى»، خسرت في تلك السنة وترشحت ثانيةً سنة 1951 وخسرت ثانيةً، لكن ما حصلت عليه من أصوات فاق سابقيها من مرشحي حزب المحافظين.
دخول البرلمان:
تزوجت مارغريت سنة 1951 رجل الأعمال الثري دنيس تاتشر، وأنجبت بعد أقل من عامين توأمين أسمتهما كارول ومارك، وكانت تدرس في أثناء ذلك لامتحان مزاولة المحاماة الذي اجتازته سنة 1954، ثم أمضت بضع سنوات في ممارسة المحاماة والبحث عن دائرة انتخابية تستطيع الفوز عنها.
ترشحت تاتشر للبرلمان مجددًا سنة 1959 عن دائرة انتخابية يسيطر عليها حزب المحافظين هذه المرة هي دائرة فينتشلي، وربحت بسهولة مقعدًا في البرلمان. كان أول مشروع قانون تقدمت به ينص على منح وسائل الإعلام حق إذاعة اجتماعات الحكومة المحلية، ولم تركز في خطابها الأول في البرلمان عن مشروع القانون على حرية الإعلام، بل على ضرورة الحد من الإسراف في الإنفاق الحكومي، وهو ما دعت إليه طوال مسيرتها السياسية.
سنة 1961 قبلت تاتشر منصب وكيل وزارة التأمينات الوطنية والمعاشات، وتدرجت بعد ذلك في المناصب الوزارية لتصبح وزيرة الدولة للعلوم والتعليم عندما استعاد المحافظون السلطة سنة 1970. أطلق عليها خصومها من حزب العمال لقب (سارقة الحليب) عندما ألغت الحليب المجاني الذي كان أطفال المدارس يتلقونه، لكنها استطاعت الحفاظ على منصبها حتى سنة 1975 عندما عاد المحافظون إلى صفوف المعارضة، وأصبحت رئيسة حزب المحافظين متغلبةً بذلك على رئيس الوزراء السابق إدوارد هيث.
مارغريت تاتشر رئيسةً للوزراء
أصبحت مارغريت إحدى أقوى نساء العالم، رفضت نظريات جون مينارد كينز الاقتصادية الذي دعا إلى الإنفاق العجزي في فترات انتشار البطالة وفضّلت الأسلوب النقدي الذي وضعه الاقتصادي الأمريكي ميلتون فريدمان. انتقدت في مؤتمر خطابي السياسة الاقتصادية لحزب العمال قائلة: «من حق الإنسان أن يعمل ما يحب، ومن حقه أن ينفق المال الذي يجنيه من عمله، وأن يتملّك، وأن تخدمه الدولة لا أن تكون سيدًا له، هذه هي القيم البريطانية». هاجمت بعد ذلك بفترة قصيرة الاتحاد السوفيتي ووصفته بأنه «يسعى لفرض سيطرته على العالم». وردَّت صحيفة سوفيتية تابعة للجيش على قولها هذا واصفةً إياها بـ«المرأة الحديدية»، ولازمها هذا اللقب طوال حياتها.
فاز حزب المحافظين في انتخابات سنة 1979 وساعده على ذلك «شتاء السخط» الذي أضربت فيه العديد من النقابات عن العمل، وأصبحت تاتشر بذلك رئيسة الوزراء، وفي ولايتها الأولى خففت حكومتها الضرائب المباشرة ورفعت الضرائب على الإنفاق، وباعت للمواطنين بيوتًا في الإسكان العام بأسعار مخفضة، ووضعت تدابير تقشفية، إضافةً إلى إصلاحات أخرى، لكن ارتفاع معدلات التضخم والبطالة سبب تراجعًا مؤقتًا في شعبية تاتشر.
وفي أبريل سنة 1982 غزت الأرجنتين جزر فوكلاند، وهي مستعمرة بريطانية قليلة السكان تبعد 300 ميل عن الأرجنتين و8000 ميل عن المملكة المتحدة. أرسلت تاتشر قوات عسكرية إلى المنطقة، وفي 2 مايو أغرقت غواصة بريطانية سفينة أرجنتينية كانت خارج منطقة الحظر وتسببت في مقتل أكثر من 300 شخص كانوا على متنها في حادثة مثيرة للجدل، ثم حطت القوات البريطانية في الشهر نفسه قرب خليج سان كارلوس في شرق فوكلاند وتمكنت رغم الهجمات الجوية الكثيفة من الاستيلاء على العاصمة ستانلي وإنهاء القتال.
ساعد الانتصار في الحرب وتحسن الاقتصاد تاتشر على الفوز بولاية ثانية سنة 1983، لكن حكومتها هذه المرة تصدت لنقابات العمال مطالبةً إياها بإجراء استفتاء داخلي سري قبل أي إضراب عن العمل، ورفضت تقديم أي تنازلات خلال إضراب عمال المناجم الذي استمر عامًا كاملًا. ثم أقدمت على ما أصبح لاحقًا جزءًا كبيرًا من إرثها السياسي، فخصخصت شركات الاتصالات البريطانية والغاز والخطوط الجوية ورولز رويس وعددًا آخر من الشركات البريطانية الحكومية.
أما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية، فقد تحالفت تاتشر مع الرئيس الأميركي رونالد ريغان، «المهندس الأكبر لانتصار الغرب في الحرب الباردة» كما وصفته، لكن علاقتها مع القادة الأوروبيين كانت أعقد، خاصةً أنها كانت ترى أن الاتحاد الأوروبي يجب أن يكون منطقةً للتجارة الحرة، لا مشروعًا سياسيًا.
قالت تاتشر في كتابها (فن الحكم) الذي صدر سنة 2002 «إن مشروعًا غير ضروري ولا عقلاني مثل بناء الدولة الأوروبية العظمى هو أعظم حماقات العصر الحديث». في آسيا، شاركت تاتشر في مفاوضات انتقال حكم هونج كونج من بريطانيا إلى الصين، وكانت سياستها في إفريقيا متناقضةً إذ شجعت إنهاء حكم الأقلية البيضاء في زيمبابوي، لكنها رفضت العقوبات ضد حكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا.
سقوط مارغريت تاتشر من السلطة:
خفّضت حكومة تاتشر بعد انتخابها رئيسةً للوزراء للمرة الثالثة سنة 1987 ضريبة الدخل إلى أدنى حد لها منذ نهاية الحرب، وفرضت (رسومًا مجتمعية)، لكن ذلك أثار سخط الجماهير التي قابلت القرار بمظاهرات غاضبة وتخلّف كثيرون عن الدفع. وفي 14 نوفمبر سنة 1990، ترشح وزير الدفاع السابق مايكل هيزلتاين ضد تاتشر لرئاسة حزب المحافظين، وكانت معارضته لسياسة تاتشر تجاه الاتحاد الأوروبي أحد أسباب ترشحه.
تغلبت تاتشر على هيزلتاين في الاقتراع الأول بفارق ضئيل، لكن في تلك الليلة زارها أعضاء وزارتها الواحد تلو الآخر وحثوها على الاستقالة، فتقدمت باستقالتها رسميًا في 28 نوفمبر بعد أن عرفت أن جون ميجور، لا هيزلتاين، هو من سيحل محلها.
بقيت تاتشر في البرلمان حتى سنة 1992 عندما انضمت إلى مجلس اللوردات الفخري وبدأت تكتب مذكراتها. ورغم اعتزالها الحياة العامة بعد تعرضها لعدد من السكتات الدماغية في العقد الأول من الألفية الجديدة، ظل تأثيرها قويًا، فما زالت العديد من سياسات السوق الحرة التي وضعتها ساريةً إلى الآن، ولم يعتمدها المحافظون فقط بل قادة حزب العمال أيضًا مثل توني بلير. وفي سنة 2011 تناول الفيلم المثير للجدل الحائز على الأوسكار «المرأة الحديدية» قصة حياة تاتشر وصعودها السياسي وسقوطها. توفيت مارغريت تاتشر في 8 أبريل 2013 عن عمر 87 عامًا.
اقرأ أيضًا:
مجتمع ما بعد الجائحة: الآثار المجتمعية وعواقب الأوبئة الماضية
ترجمة: ساندرا أشرف
تدقيق: وئام سليمان
مراجعة: أكرم محيي الدين