منذ الأزل، حيّرت التساؤلات عن كيفية عمل الوعي البشري الفلاسفة والشعراء وكُتّاب المسرح وأطباء التخدير وعلماء الدماغ و كُتّاب الأغاني وكل إنسان يفكر. حيّرت الآليات التي تدعم الإدراك الواعي في أثناء الصحو أو فقد الوعي في أثناء النوم أو التخدير العام علماء الأعصاب قرونًا عدة، ومع كل التطورات في البحث العلمي في القرن الحادي والعشرين، ما زال الربط العصبي للوعي غامضًا.
في مقالة نُشرت في نيويورك تايمز في 2012 كتب جيمس جورمان: «أحجية الوعي صعبة لدرجة أن العلماء والفلاسفة يواجهون صعوبة في كيفية الحديث عنها، ناهيك بتفسير ماهيتها ومعرفة مصدرها»، مشيرًا إلى ورقة بحثية في مجلة Science لألكير وهوديتز وتوناني في 2008، جاء فيها: «نظن أن الوعي يتلاشى عندما نكون تحت التخدير، لكن هل يحدث هذا دائمًا؟ ومع أن التخدير يسبب فقد الاستجابة والنسيان دون شك، فمن الصعب التحقق من مدى تَسَبُّبه بفقد الوعي».
يقتبس جورمان أيضًا دراسةً من 2012 أجراها هاري شيني وجاكو لانسيو من جامعة توركو الفنلندية نُشرت في «مجلة علم الأعصاب»، ووجدت أن استعادة الوعي بعد الإفاقة من الغيبوبة المُحدَثة بعوامل مخدرة تترافق مع تفعيل شبكات عميقة تشمل المناطق تحت القشرية والحوفية، التي ترتبط وظيفيًا بأجزاء من القشرة الجبهية والجدارية السفلية عند الإفاقة.
بعد نحو عقد من الزمن، تعطينا دراسة معتمدة على المسح البوزيتروني منظورًا جديدًا حول ما يحدث في الدماغ خلال تلاشي الوعي بالعالم المحيط، وكانت بعنوان «أساس الوعي البشري: تصوير منطقة الشفق» أجراها هاري شينين في جامعة توركو ونُشرت النتائج في 28 ديسمبر 2020 في مجلة علم الأعصاب.
ركز الباحثون على حالتي الوعي المتصلة والمنفصلة. الحالة المنفصلة هي غياب الاستجابة في أثناء التخدير ومراحل حركة العين غير السريعة من النوم، مع التحقق لاحقًا من غياب اتصال المتطوعين بالعالم الخارجي.
يقول الباحثون: «إن فهم الأسس البيولوجية للوعي البشري أحد أهم التحديات التي تواجه علم الأعصاب حاليًا، ونستعرض هنا دراسات مصممة بعناية لتتجاوز معوقات سابقة وتكشف للمرة الأولى الآلية العصبية وراء الوعي البشري وانفصاله عن الاستجابة السلوكية، في كل من التخدير والنوم الطبيعي، وحددت نتائجنا شبكة دماغية مركزية عميقة مهمة للوعي البشري».
راقب الباحثون نشاط الدماغ في حالات مختلفة من الوعي لدى 48 شخصًا في تجربتين عشوائيتين، في التجربة الأولى استُخدمت عوامل مخدرة لتحقيق حالة انفصال الوعي، التي لا يُظهر فيها المتطوع علامات الوعي بالعالم المحيط، وطلب الباحثون من المتطوعين في التجربة الثانية أن يناموا نومًا طبيعيًا في المختبر دون تدخل أي أدوية.
في منتصف كلتا التجربتين، أيقظ الباحثون المتطوعين من حالة انفصال الوعي، وبعد لحظات من الاستيقاظ، بدأ الباحثون بطرح أسئلة مصممة لاسترجاع تجارب المتطوعين في حالة غياب الوعي.
وجد الباحثون أن درجة الاستجابة لدى البعض لا تعكس بالضرورة حالة الوعي لديهم، مثلًا: الشخص الذي يبدو غير مستجيب قد يبقى في الحالة المتصلة وواعٍ بما حوله، ولاحظوا أن عدم الاستجابة نادرًا ما يدل على غياب الوعي، إذ مرّ أغلب المتطوعين بتجارب مُحرّضة داخليًا، وتتوافق هذه النتائج مع نتائج البحث السابق التي وجدت أن التخدير لا يغيّب الوعي تمامًا.
تشير الأدلة المتراكمة حول آليات التخدير من مركز توركو للمسح البوزيتروني إلى الأساس العصبي للوعي البشري، وتحسّن آخر أبحاثهم فهمنا لكيفية عمل الدماغ في المرحلة المسماة «منطقة الشفق»، وهي المرحلة بين الوعي اليقظ وغياب الاستجابة الكلي، التي يفقد فيها الشخص وعيه بعالمه المحيط.
قالت الكاتبة الأولى أنالوتا شينين: «بسبب التأخير القصير بين الاستيقاظ وبدء الأسئلة، تزيد النتائج الجديدة فهمنا لطبيعة التخدير، ما يعني أن التخدير العام الناجح لا يتطلب الفقد الكامل للوعي بعكس الفكرة الشائعة، بل يكفي أن نفصل إدراك المريض عما يدور في العالم الخارجي».
يقول الباحثون: «تتوافق التغيرات في حالة الوعي مع نشاط شبكة مؤلفة من مناطق عميقة من الدماغ، وهي المهاد والقشرة الحزامية الأمامية والخلفية والتلفيف الزاوي. تحظى هذه المناطق بتروية دموية قليلة عندما يكون المشارك في حالة انفصال الوعي، وتزداد التروية الدموية لها عند عودة الوعي». واستنتجت دراسة شينين اعتمادًا على النتائج الأخيرة أن نشاط المهاد والقشرة الحزامية والتلفيف الحزامي هو أساس الوعي البشري.
اقرأ أيضًا:
أصل الوعي: كيف يصبح غير المدرك مدركًا؟
ربما يتوصل العلماء قريبًا إلى تعريف الوعي
ترجمة: حيان شامية
تدقيق: محمد حسان عجك
مراجعة: أكرم محيي الدين