ميُعد مبدأ الريبة التي توصل إليه العالم هايزنبرغ إحدى أكثر الأفكار شهرة في الفيزياء، وربما إحدى أكثر الأفكار التي تُفهم بطريقة مغلوطة. يخبرنا هذا المبدأ أن هناك غموضًا في الطبيعة، وحدًّا لما يمكننا معرفته عن سلوك الجزيئات الكمومية (أصغر مقاييس الطبيعة) مثل الإلكترون أو الفوتون. أكثر ما يمكن أن نأمله هو حساب الاحتمالات التي تُنبئ بمكان وجود الأشياء وسلوكها. يكرس مبدأ الريبة غموضًا في نظرية الكم، على عكس انتظام الكون عند إسحاق نيوتن، حيث كل شيء يتم وفق قوانين واضحة تحدد حركة الأجسام، وتكون التوقعات فيه سهلة إذا عرفنا شروط البدء.
يخبرنا مبدأ هايزنبرغ لماذا لا تنفجر الذرات، وكيف تمكنت الشمس من التألق، وأن الخلاء في الفضاء ليس فارغًا بالفعل. ظهر التجسيد المبدئي لمبدأ الريبة في وثيقة في عام 1927 من قبل العالم هايزنبرغ، وهو عالم فيزيائي ألماني كان يعمل في معهد «نيلز بور» في كوبنهاغن في ذلك الوقت، وأعطاها عنوان «حول المحتوى الإدراكي لنظرية الحركة الكمومية والميكانيكية».
جاء الشكل الأكثر شيوعًا لمبدأ الريبة بعد بضع سنوات حين صقل هايزنبرغ أفكاره ووسعها. عمل هايزنبرغ عن طريق تضمين نظرية الكم، وهي طريقة جديدة وغريبة لشرح سلوك الذرات، وهو ما قام به علماء الفيزياء بور، وبول ديراك، وشرودنجر على مدار العقد السابق.
اقترحت نظرية الكم أن الطاقة ليست مستمرة بل هي حزم منفصلة (كميات)، ويمكن وصف الضوء على أنه موجة وتدفق. اكتشف هايزنبرغ مشكلة في الطريقة التي يمكن من خلالها قياس الخواص الفيزيائية الأساسية لجسيم ما في النظام الكمومي.
لا يمكننا –وفق مبدأ الريبة– قياس الموضع (x) والقوة الدافعة (p) لجسيم ما بدقة مطلقة، وكلما زادت دقة معرفتنا بأحد هذه القيم، قلت دقة معرفتنا بالآخر. عند ضرب الأخطاء بقياسات القيم (تمثل الأخطاء بالرمز دلتا) ينتج عدد أكبر أو يساوي نصف ثابت (h-bar). وهذا يساوي ثابت بلانك (h) مقسومًا على 2π.
يُعد ثابت بلانك رقمًا مهمًا في نظرية الكم، وهو وسيلة لقياس مدى دقة العالم في أصغر أبعاده، قيمته 6.626×10-34 جول بالثانية.
نستطيع فهم مبدأ الريبة عن طريق التفكير بكيفية رؤية وقياس الأشياء في العالم اليومي، يمكنك قراءة هذه الكلمات لأن جزيئات الضوء والفوتونات ارتدت عن الشاشة ووصلت إلى عينيك؛ يحمل كل فوتون بعض المعلومات من السطح الذي ارتد عنه متحركًا بسرعة الضوء.
رؤية الجسيمات دون الذرية (الإلكترونات مثلًا) ليست بالأمر السهل، سوف تحتاج إلى ارتداد الفوتون عن هذا الجسيم ما دون الذري، من ثم ستحتاج أداة لتساعدك على رؤية وملاحظة الفوتون.
لكن هناك احتمال أن الفوتون سوف ينقل بعض القوة الدافعة للإلكترون عندما يصطدم به، من ثم يغير مسار الجسيم الذي تحاول رؤيته. ونظرًا إلى أن الجزيئات الكمومية تتحرك بسرعة كبيرة، فقد لا يكون الإلكترون في مكانه عندما يرتد الفوتون.
في كلتا الحالتين، ستكون ملاحظتك لأي من الموضع أو القوة الدافعة غير دقيقة. والأهم من ذلك، أن فعل الملاحظة يؤثر على الجسيم الذي يُراقب!
يعد مبدأ الريبة جزءًا مهمًا في الكثير من الأشياء التي نراها ونلاحظها يوميًا ولا نستطيع تفسيرها اعتمادًا على الفيزياء التقليدية. فلنأخذ الذرة مثالًا: تدور الجسيمات السالبة والموجبة فيها وفق مدارات معينة، وبالرجوع للفيزياء التقليدية، يجب أن تتجاذب هذه الجسيمات نظرًا لاختلاف شحناتها، وهو ما سيؤدي بدوره إلى انهيار مجسم الذرة.
لكن مبدأ الريبة لديه التفسير: إذا اقترب الإلكترون من النواة، فسيكون موقعه في الفضاء معروفًا بدقة، وبالتالي فإن الخطأ في قياس موضعه سيكون ضئيلًا للغاية، ما يعني أن الخطأ في قياس قوته سيكون هائلاً.
ها هي خلاصة مبدأ الريبة:
استطعنا تحديد موقع الإلكترون بدقة متناهية، لكن بالمقابل كان تحديد سرعته ضمن مجال واسع من الخطأ؛ إذ لا نستطيع تحديد قيمتين معًا بدقة متناهية. في هذه الحالة، يمكن أن يتحرك الإلكترون بسرعة كافية ليخرج من الذرة تمامًا. يمكن لفكرة هايزنبرغ أن تفسر أيضًا نوعًا من الإشعاع النووي يسمى تحلل ألفا.
جزيئات ألفا هي بروتونان ونيوترونان ينبعثان من بعض النوى الثقيلة، مثل اليورانيوم 238. ونحتاج إلى الكثير من الطاقة لكسر الروابط بداخلها. ولكن نظرًا إلى أن جسيمات ألفا الموجودة داخل النواة لها سرعة محددة جيدًا، فإن موقعها غير محدد بدقة.
هذا يعني أن هناك فرصة صغيرة –ولكن ليست معدومة– في أن يجد الجسيم نفسه خارج النواة، على الرغم من أنه من الناحية الفنية لا يملك طاقة كافية للخروج منها.
تحدث عملية تُعرف مجازًا باسم “النفق الكمومي” لأن الجسيم الهارب يجب أن يحفر طريقه عبر حاجز طاقة لا يمكنه القفز فوقه، فيهرب جسيم ألفا عبر النفق الكمومي ونرى النشاط الإشعاعي. تحدث عملية نفق كمومية مماثلة في مركز شمسنا، حيث تلتحم البروتونات معًا وتطلق الطاقة التي تسمح لنجمنا بالتألق.
درجات الحرارة في قلب الشمس ليست عاليةً بما يكفي للبروتونات للتغلب على التنافر الكهربائي المتبادل؛ لكن بفضل مبدأ الريبة، تمكنت من شق طريقها عبر الحاجز الكمومي، فالتحمت البروتونات ببعضها لتطلق الطاقة التي تعطي الشمس تألقها. لعل أغرب ما أتى به مبدأ الريبة هو نظرته للفراغ. إذ يُعرف الفراغ بأنه غياب كل شيء، لكن ليس بالنسبة للفيزياء الكمومية.
هناك حالة عدم يقين متجذرة حول كمية الطاقة التي تلزم لحدوث العمليات الكمومية، وحول الوقت الذي تستغرقه تلك العمليات لكي تحدث. بدلًا من المكان والقوة الدافعة، يمكن أيضًا التعبير عن معادلة هايزنبرغ من حيث الطاقة والوقت.
ونذكّر مرة أخرى أنه كلما كان أحد المتغيرَين معروفًا ومحددًا بدقة، كان الثاني أقل تحديدًا. لذلك، من الممكن أن تكون طاقة النظام الكمومي –لفترة قصيرة جدًا من الزمن– غير مؤكدة إلى حد كبير، بحيث يمكن أن تخرج الجزيئات خارج الفراغ.
تظهر هذه «الجسيمات الافتراضية» على شكل أزواج –الإلكترون وجسيمه المضاد: البوزيترون على سبيل المثال– لفترة قصيرة ثم يُفني كل منهما الآخر. هذا جيد ضمن قوانين الفيزياء الكمومية، طالما أن الجزيئات موجودة فقط بشكل عابر، وتختفي عندما يحين وقت رحيلها. إذن، لا شيء يدعو للقلق في فيزياء الكم، وفي الواقع، ما كنا لنكون هنا إن لم يكن مبدأ الريبة موجودًا.
اقرأ أيضًا:
الزجاج الفائق قد يكون أحدث حالات المادة المكتشفة
ترجمة: سارة حسين
تدقيق: عبد الرحمن عبد