قد تساعدنا الأدوية المضادة للفيروسات التي تعمل ضد عدد كبير من الفيروسات المتنوعة على الاستعداد لمواجهة أمراض جديدة ولكن اكتشافها يمثل تحديًا بيولوجيًا كبيرًا.
في عام 1947 في «العصر الذهبي» لأبحاث المضادات الحيوية التي أسفرت عن العديد من الأدوية المُستَخدمة اليوم ضد البكتيريا، كانت تربة فنزويلا كنزًا علميًا؛ إذ اكتشف فيها باحثون من إحدى شركات الأدوية المغمورة الكلورامفينيكول، وهو جزيء قادر على مكافحة سلسلة واسعة من البكتيريا من عائلات مختلفة وكان من أول المضادات الحيوية واسعة الطيف المُعتَمدة من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية واستُخدِم في علاج التيفوس أو التهاب سحايا الدماغ، لكن آثاره الجانبية الشديدة جعلته الخيار الأخير لأطباء اليوم، ومع هذا تبقى الأدوية متعددة الاستعمالات التي يطلَق عليها اسم الأدوية «واسعة الطيف» أسلحةً لا تُقدّر بثمن في مواجهة مجموعة كبيرة من أنواع العدوى البكتيرية.
بدأ العلماء بعد فترة وجيزة من هذا الاكتشاف بإيجاد طرق لاستهداف نوع آخر من مُسبِّبات الأمراض وهي الفيروسات، إذ وافقت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية سنة 1963 على إيدوكسوريدين، أول مضاد للفيروسات لعلاج نوع من فيروسات الهربس. واليوم لدينا أدوية شديدة التخصص ضد فيروسات بعينها مثل العديد من الأدوية التي تهاجم فيروس عوز المناعة البشري، وبعض الأدوية التي تعمل ضد فيروسات متعددة من نفس العائلة الفيروسية مثل تاميفلو المُعتَمد لعلاج النوعين الرئيسيين من الإنفلونزا، لكن القليل من الأدوية تمتد فعاليتها عبر العائلات الفيروسية، ويبقى الأمل بالتوصل إلى أدوية مضادة للفيروسات واسعة الطيف حلمًا بعيد المنال.
يزيد هذا من صعوبة البحث عن علاج لفيروس كورونا المستجد، إذ لا يوجد حاليًا مضاد للفيروسات واسع الطيف معتمَد لعلاج جميع فيروسات العائلة التاجية التي تسببت سلالة جديدة منها في انتشار الجائحة الحالية، ويواصل العلماء جهودهم الحثيثة للتوصل إلى علاج في أسرع وقت ممكن.
لماذا يصعب صنع مضادات الفيروسات واسعة الطيف؟
تعد الفيروسات أهدافًا أكثر صعوبة من البكتيريا، فهي أصغر منها عادة بمئات المرات وتتألف من مكون خلوي رئيسي واحد وتُمثل بصمتها الجينية الضئيلة لغزًا صعبًا للباحثين، ونقاط ضعف الفيروس التي تستطيع المضادات الفيروسية استهدافها أقل بكثير من البكتيريا، لا سيما في الأدوية التي تهاجم مكونًا مشتركًا بين أكثر من نوع من الفيروسات (وهي مكونات يندر وجودها).
مثلًا تتسبب بالتهاب الكبد C فيروسات HCV من عائلة «فيروسات المصفرة» التي تتضمن الفيروس المُسبب للحمى الصفراء. بعض أدوية التهاب الكبد C مُصممة لاستهداف بعض أنواع فيروسات HCV الستة فقط ولا تستهدف الحمى الصفراء. يسمي العلماء هذه الطريقة في استهداف فيروس بعينه «دواء واحد لفيروس واحد».
لا يجب أن تكون آلية عمل مضاد الفيروسات واسعة جدًا أيضًا، يقول أميش أدلجا الباحث في مركز جونز هوبكنز الجامعي للأمن الصحي: «كلما اتسعت آلية عمل الدواء، زاد احتمال إصابة الخلية المضيفة للفيروس بالضرر»، فمضاد الفيروسات واسع الطيف «ريبافيرين» مثلًا الذي يقاوم كلًا من فيروس التهاب الكبد C والفيروس المخلوي التنفسي قد يتسبب بتشوهات خلقية ويدمِّر الخلايا الدموية.
يضيف أدلجا: «للتعامل مباشرة مع مسببات المرض الدقيقة، ينبغي للدواء أن يستهدف الفيروس بدقة من دون أن يؤثر على الخلية المضيفة». يُستثنى من هذا العلاجات واسعة الطيف المُسماة بمضادات الفيروسات الموجهة ضد الخلايا المضيفة التي تستهدف الخلية المضيفة بدلًا من الفيروس، ولكنها قد تتسبب بآثار جانبية خطيرة.
إضافةً إلى التحدي البيولوجي في إيجاد أدوية فيروسية واسعة الطيف يكمن التحدي الاقتصادي. فالفوائد المادية التي تعود على شركات الأدوية من تطوير أدوية الفيروسات واسعة الطيف لعلاج الأمراض الجديدة والناشئة قليلة، إذ لا توجد ضمانات باسترداد التكاليف المادية الباهظة التي تُنفَق على الأبحاث.
يقول عالم الأحياء المجهرية رالف باريك الذي أمضى عقودًا في دراسة الفيروسات التاجية وتحذير العالم من خطر الأمراض الناشئة: «نادرًا ما تهتم شركات الأدوية الكبرى بتطوير علاجات لأدوية غير معروفة قد تظهر في المستقبل، ما يجعل استجابة العالم لتفشي الأمراض الجديدة تفاعليًا وليس استباقيًا». ورغم أن الصناديق الفيدرالية تموِّل عادة هذا النوع من الأبحاث، يميل الكونغرس الأميركي إلى منح التمويل لأبحاث الأمراض الموجودة بالفعل مثل إيبولا بدلًا من التدابير الوقائية.
يقول باريك: «ليس لدينا دواء جاهز لعلاج كل الفيروسات الشبيهة بفيروس سارس أو بفيروس إيبولا أو بفيروسات الإنفلونزا، فعندما ينتقل فيروس مثل الإيبولا أو السارس كوف-2 إلى البشر لا يجد الأطباء إلا عددًا محدودًا من العلاجات التي يستطيعون استخدامها في مواجهته، ويضطر العلماء إلى بدء عمليات تطوير الأدوية واختباراتها المطولة من نقطة الصفر.
لا تصنع أدوية الفيروسات واسعة الطيف المعجزات، لكنها إضافة مفيدة إلى مجموعة الأدوية القليلة التي نستخدمها حاليًا في مواجهة الفيروسات. وصف أدلجا وزميل آخر له من جورج هوبكنز في ورقة بحثية نشراها العام الماضي ندرة أدوية الفيروسات واسعة الطيف بأنها: «فجوة كبيرة في جاهزيتنا لمواجهة التفشي المفاجئ للأمراض المعدية».
ظهور دواء ريميديسيفير:
يتعاون مختبر باريك منذ سبع سنوات مع مختبر فاندربيلت حيث تعمل أندريا برويسيز أستاذة الأبحاث المساعِدة مع زملائها للبحث عن أدوية للفيروسات تعوض النقص في هذا المجال، وقد اختبروا نحو 200 ألف دواء لمكافحة الفيروسات التاجية التي تصيب الخفافيش وحددوا على الأقل 24 عقارًا مبشرًا بالنجاح، من ضمنهم عقار ريميديسيفير، وهو المضاد الفيروسي الوحيد الذي قلل كثيرًا المدة اللازمة لتعافي مرضى كوفيد-19 في التجارب السريرية، لكنه لم يقلل عدد الوفيات.
لفتت قدرات ريميديسيفير العلاجية الانتباه أول مرة في أكتوبر 2015 في أثناء تفشي فيروس إيبولا في غرب أفريقيا الذي أودى بحياة نحو 11000 شخص. أعلن معهد البحوث العسكرية للأمراض المعدية التابع للجيش الأميركي أنه توصل بالتعاون مع شركة الأدوية الحيوية جلعاد ساينسز إلى أول دواء ذي جزيئات صغيرة نشطة يحمي قرود الريسوس المصابة بفيروس إيبولا من تأثيرات المرض المميتة.
كان دواء GS-5734 -الاسم الأصلي لدواء ريميديسيفير- النسخة المُحَسَّنة لمُرَكَّب دوائي من مختبرات جلعاد صُمِّم لعلاج فيروسات أخرى. وأظهر فحص أجراه مركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها 1000 احتمال مختلف لاستخدام هذا الدواء ما جعله من أدوية الفيروسات واسعة الطيف. قضى هذا الدواء في التجارب المخبرية على فيروسات إيبولا في الخلايا وأنواع أخرى من الفيروسات من ضمنها الفيروس التاجي المسبب لمتلازمة الشرق الأوسط التنفسية.
يكافح ريميديسيفير الفيروس بالتدخل في عملية نسخه لنفسه، وهي استراتيجية شائعة بين مضادات الفيروسات واسعة الطيف لأن الإنزيمات المسؤولة عن عمليات الانقسام تكون مشتركة بين عدد كبير من الفيروسات. فالتسلسلات الجينية لبوليمرات الحمض النووي الريبوزي للفيروسات التاجية متطابقة بنسبة 70%، وعلى العكس تختلف الشفرة الجينية للبروتينات الشوكية التي تساعد الفيروسات التاجية على غزو الخلايا المضيفة، بحسب باريك.
يحوّل الجسم ريميديسيفير إلى مادة مزيفة تسمى مُضاهئ نوكليوزيد وهو شبيه جيني مزيف للأدينوزين أحد حروف أبجدية الحمض النووي الريبوزي الأربعة التي تشكّل جينومات كل من الفيروسات التاجية وفيروسات إيبولا، وعندما ينسخ الفيروس نفسه يضيف هذا الشبيه المزيف إلى شريط مادته الوراثية الجديد، لكن التركيب الجزيئي لمضاهئ النوكليوزيد يختلف عن الأدينوزين الحقيقي اختلافًا كافيًا يؤدي إلى إبطاء عملية النسخ إلى أن تتوقف تمامًا.
يقول ترافيس وارين الباحث في معهد البحوث العسكرية للأمراض المعدية التابع للجيش الأميركي: «عندما يتوقف نسخ الفيروس نفسه، يستطيع جهاز مناعة الجسم السيطرة على العدوى ومحاربتها».
عند انتشار جائحة كوفيد-19 في العالم، أجرى العلماء في كل أنحاء العالم التجارب على ريميديسيفير بوصفه أحد خيارات العلاج. وأعلنت المعاهد الوطنية للصحة في أبريل عن نتائج أولية تفيد أن الدواء قد خفض مدة التعافي من المرض بنسبة 31% من 15 يوم إلى 11 في حالات الإصابة الشديدة من كوفيد-19، رغم أنه لم يقلل كثيرًا من عدد الوفيات.
يرى أنتوني فاوتشي مدير المعهد الوطني للحساسية والأمراض المعدية أن هذه النتائج مبشرة وتُعد نقطة بداية للتوصل إلى طرق أفضل للعلاج، ويتوقع الخبراء أن يحقق هذا الدواء نتائج أفضل عند إعطائه للمرضى في مراحل مبكرة من الإصابة أو المصابين بحالات متوسطة من كوفيد-19.
من خيارات العلاج الأخرى التي تتحول داخل الجسم أيضًا إلى مضاهئات النوكليوزيد هو عقار EIDD-2801، الذي أظهر فعالية محتملة واسعة ضد عدد كبير من الفيروسات، بالإضافة إلى قدرته على الدفاع عن الخلايا ضد سارس كوف-2؛ إذ يزرع طفرات في فيروس كورونا ثبت أنها تصبح قاتلة كلما زادت مرات نسخ الفيروس جينومه.
يُعطى EIDD-2801 على هيئة أقراص بدلًا من حقنه وريديًا، ولم يقطع شوطًا طويلًا في التجارب السريرية مثل ريميديسيفير، لكن يبدو أن كلا العقارين قادر على تخطي دفاعات الفيروسات التاجية والتسلل إلى جيناتها، رغم أن هذه الفيروسات -على عكس معظم الفيروسات الأخرى- تفحص دقة الجينوم المنسوخ وتستأصل مضاهئات النوكليوزيد المزيفة الأخرى. استطاع العقاران التغلب على فيروسات كورونا في النسخ المزروعة مخبريًا من خلايا الجهاز التنفسي المصابة بالفيروس.
تقول برويسيز إن كلا العلاجين أفضل بعشر مرات على الأقل من أدوية كوفيد-19 التي ذاع صيتها مثل هيدروكسي كلوركين أو كاموستات، وقد اجتاز الدواءان فحوصات السلامة المخبرية للتحقق من أنهما يهاجمان فقط الحمض النووي الريبوزي في الفيروس ولا يؤثران في الحمض النووي الريبوزي في الخلية البشرية المضيفة، بالإضافة إلى اختبارات السلامة الأكثر تقدمًا.
ماذا نتوقع في المستقبل؟
يقول باريك: «إن ريميديسيفير وEIDD-2801 ليسا العقارين الوحيدين اللذين نعمل عليهما». لكنه رفض الإفصاح عن تفاصيل الأبحاث الحالية، إذ يركز الجزء الأكبر من الأبحاث المتعلقة بفيروس كورونا -في تقدير برويسيز- على علاجات تحارب فيروس كورونا الجديد لكن ليس بالضرورة أن تكون فعالة ضد الفيروسات الأخرى.
قد لا يكون ريميديسيفير أو EIDD-2801 أو أي مضاد فيروسي آخر العلاج النهائي الأفضل لكوفيد-19، لأن إيقاف الفيروس هو جزء واحد فقط من المعادلة. يحتاج الأطباء أيضًا إلى معالجة الأعراض العديدة والمختلفة للمرض، ويجب عليهم في حالات المرض المتأخرة التعامل مع استجابة الجسم المناعية الشديدة ضد الفيروس.
تعد مضادات الفيروسات واسعة الطيف في هذه المرحلة ذات قيمة كبيرة لا سيما ريميديسيفير والأدوية الأخرى التي يُعَاد استخدامها لأن هذا يعني أنها اجتازت اختبارات السلامة على البشر بنجاح. ويرى كل من باريك وبرويسيز أن فعالية الأدوية المضادة للفيروسات تزداد عند دمجها مع علاجات أخرى.
لا ينبغي في الوقت الحالي للناس أن يتوقعوا التوصل إلى دواء خارق متعدد الاستعمالات يقضي بسهولة على مختلف أنواع الفيروسات التي تهاجم أعضاء الجسم المختلفة.
تقول جاسي بانو التي أجرت أبحاثًا عن سياسات الاستعداد ضد الجائحة في معهد Future of Humanity التابع لجامعة أوكسفورد وهي الآن اختصاصية طب باطني مقيمة في مستشفى جامعة ستانفورد: «لن نستطيع التوصل إلى مضاد فيروسي واحد لعلاج كل أنواع الأوبئة التي قد تنتشر في المستقبل، والسيناريو الأكثر ترجيحًا هو أن نتوصل إلى مجموعة متنوعة من هذه الأدوية بعضها لن يُستخدم أصلًا، لكن الهدف الأساسي منها أن تكون لدينا خيارات كثيرة تُجرَّب عند الحاجة ضد الفيروسات الجديدة».
كتب أدالجا في العام الماضي عن ضرورة تطوير المزيد من مضادات الفيروسات واسعة الطيف التي تعمل ضد عدد مختلف من الفيروسات من العائلة نفسها، أو ضد فيروسات من عائلات مختلفة وهو أمر صعب لكنه ليس مستحيلًا. واقترح إجراء المزيد من الفحوصات على الأدوية الجديدة لمعرفة قدرتها على مكافحة فيروسات أخرى غير تلك التي صُممت للقضاء عليها، وهي الطريقة التي عرف العلماء بها فعالية ريميديسيفير ضد فيروسات مختلفة، وتحتاج هذه الأبحاث إلى التمويل، وقد يتوفر المزيد من التمويل الفيدرالي لمثل هذه الأبحاث قريبًا. يقول باريك: «بدأت معاهد الصحة الوطنية الأميركية بتبني فكرة دواء واحد لأكثر من فيروس».
لكن بانو تحذر من أن النجاح الذي حققه ريميديسيفير سيسلط الضوء على أهمية مضادات الفيروسات واسعة الطيف فترة قصيرة فقط، ثم سيخبو هذا الاهتمام بعد انتهاء الجائحة مثلما حدث من قبل؛ إذ إن الاهتمام بالعلاجات متعددة الاستعمالات يخف عادة عند عدم وجود الحاجة إليها. يواجه الأطباء هذه المرة مرض كوفيد-19 الجديد دون علاج مثبت سريريًا يستطيعون تقديمه إلى المرضى، لكن هذا السيناريو قد يتغير عند تفشي جائحة أخرى إن تغيرت أولويات واضعي ميزانيات البحث العلمي.
اقرأ أيضًا:
ما علاج فيروس كورونا المستجد بالبلازما؟ وهل يشفي من المرض؟
إليك ما نعرفه حتى الآن عن آثار فيروس كورونا على الجسم
ترجمة: أحمد سعد ماضي
تدقيق: وئام سليمان