ما سياسة التقشف؟
يشير مصطلح «سياسة التقشف» إلى تبني الحكومة حزمة سياسات اقتصادية تهدف إلى السيطرة على مديونية القطاع العام. تتبنى الحكومات الإجراءات التقشفية عند تراكم الدين العام إلى درجة يصبح معها احتمال التخلف عن الدفع والتقصير في تلبية الدفعات كبيرًا جدًا.
باختصار، يساعد التقشف الحكومات على استعادة عافيتها المالية، فخطر التعثر قد يخرج عن السيطرة بسرعة، ومع تفاقم ديون الأفراد أو الشركات أو الدول، يرفع المُقرضون معدلات الفائدة على القروض المستقبلية، ما يعقد عملية حصول المُقترِضين على التمويل.
كيف تعمل سياسات التقشف؟
تضطرب أوضاع الحكومات المالية عندما تفوق الديون الإيرادات، وتكون النتيجة عجزًا كبيرًا في الموازنة، إذ ترتفع مستويات الدين عمومًا عندما تزيد الحكومة من الإنفاق، ما يعني تزايد خطر التخلف عن السداد. لتجنب هذه المخاطر يفرض الدائنون معدلات فائدة أعلى مقابل القروض، وعندها قد تُجبَر الحكومات على اتخاذ إجراءات معينة بغرض إرضاء دائنيها والتحكم في مستويات مديونيتها.
يُطبق التقشف لتقليص الفجوة بين إيرادات الحكومة ومصاريفها، التي أحدثتها الاستدانة المفرطة أو الزيادة الكبيرة في المصاريف. قد تلجأ الحكومة إلى التقشف عندما تكون مدينةً بأكثر مما تستطيع جنيه من الإيرادات. يساعد تطبيق هذه الإجراءات على إعادة الثقة في الاقتصاد، بتقليل حجم الفجوة في الموازنة الحكومية، إذ تُعد سياسات التقشف مؤشرًا على نية الحكومات باتخاذ خطوات تهدف إلى استعادة عافية موازناتها، ما يحفز المقرضين لخفض معدلات الفائدة على القروض الممنوحة، وقد يترافق ذلك مع شروط محددة تضبط هذه الخطوات.
مثلًا، انخفضت معدلات الفائدة على الديون اليونانية بعد أول حزمة مساعدات قُدمت إليها، ومع ذلك اقتصرت المكاسب على تخفيف عبء الفوائد عن الحكومة. ومع عدم استفادة عموم القطاع الخاص، كانت الشركات الكبرى هي الرابح الأكبر من معدلات الفائدة المنخفضة، وحصل المستهلكون على مكاسب هامشية، وأبقت معدلات النمو الاقتصادي المنخفضة الاقتراض في مستويات متدنية، رغم تدني معدلات الفائدة.
اعتبارات خاصة
لا يعني خفض الإنفاق الحكومي التقشف بالضرورة، إذ تحتاج الحكومات إلى خفض الإنفاق في بعض مراحل الدورة الاقتصادية.
مثلًا، سبّب الانهيار الاقتصادي سنة 2008 معاناة حكومات عديدة من قلة العائد الضريبي، وكشف ذلك «مستويات إنفاق غير مستدامة»، فلجأت حكومات أوروبية، متضمنةً المملكة المتحدة واليونان وإسبانيا، إلى التقشف وسيلةً لتخفيف الضغط على الموازنات. وفي أثناء الكساد الذي عم أوروبا، أصبح التقشف ضرورةً بسبب عدم جدوى معالجة مشكلة تراكم الديون في منطقة اليورو بطباعة المزيد من العملة، ومن ثم ضغط الدائنون على دول أوروبية محددة لإجبارها على معالجة مشكلة الإنفاق بحزم لتزايد خطر عدم التزامها بالدفع.
أنواع سياسات التقشف
تُقسم إجراءات التقشف إلى ثلاثة أنواع:
- زيادة الإيرادات الضريبية: تدعم هذه الطريقة غالبًا توسع الإنفاق الحكومي، وتهدف إلى تحفيز النمو والإنفاق والحصول على مكاسب عبر فرض الضرائب.
- نموذج ميركل: يركز هذه النموذج على زيادة الضرائب تزامنًا مع التخلص من الوظائف الحكومية غير الضرورية.
- تخفيض الضرائب والإنفاق الحكومي معًا: وهي الطريقة المفضلة لدى مناصري السوق الحرة.
الضرائب
يختلف علماء الاقتصاد حول أثر السياسة الضريبية في الموازنة الحكومية، يرى آرثر لافر -مستشار ريغان- أن خفض الضرائب الموجَّه استراتيجيًا يحفز النشاط الاقتصادي، ويؤدي للمفارقة إلى مزيد من الإيرادات الضريبية. يُجمِع معظم الاقتصاديين والمحللين على أن زيادة الضرائب ترفع الإيرادات. وقد اتبعت دول أوروبية عديدة هذه الاستراتيجية، مثل اليونان التي رفعت ضريبة القيمة المضافة لتبلغ 23% سنة 2010، ورفعت ضريبة الدخل على فئات الدخل الأعلى، تزامنًا مع فرض ضرائب جديدة على العقارات.
خفض الإنفاق الحكومي
يُعد خفض الإنفاق الحكومي إجراءً آخر من إجراءات التقشف، وتعد الأغلبية هذا الإجراء الوسيلة الأنجح لخفض العجز. تعني زيادة الضرائب زيادة الأموال المتوفرة لدى السياسيين، الذين ينزعون إلى إنفاقها في شراء أصوات ناخبيهم.
للإنفاق الحكومي أشكال كثيرة، تتضمن المنح والإعانات وبرامج إعادة توزيع الثروة والخدمات الحكومية وتأمين مستلزمات الجيش ومكافآت موظفي الحكومة والمساعدات الممنوحة للدول، ويُعد أي تخفيض في هذه المدفوعات نوعًا من التقشف بطبيعة الحال.
يفرض المشرعون واحدًا أو أكثر من الإجراءات الآتية عند تطبيق أبسط صيغ برامج التقشف:
- خفض رواتب موظفي الحكومة أو وضع حد لها.
- تجميد التوظيف وتسريح العمالة.
- تخفيض الخدمات الحكومية، مؤقتًا أو دائمًا، أو إلغاؤها.
- تخفيض معاشات التقاعد.
- خفض الفائدة المدفوعة على السندات الحكومية الصادرة حديثًا، ما يجعلها أقل جذبًا للاستثمار ويقلل عبء الفوائد.
- إعادة النظر في خطط الإنفاق المقررة سلفًا، مثل مشروعات البنية التحتية والصيانة والرعاية الصحية وتعويضات المحاربين القدامى.
- زيادة الضرائب، متضمنةً ضرائب الدخل والضرائب على الشركات والعقارات وضرائب المبيعات وضرائب الأرباح الرأسمالية.
- زيادة المعروض النقدي ومعدلات الفائدة أو تخفيضها وفقًا لما تمليه ظروف البنوك المركزية.
- تقنين السلع الضرورية وفرض قيود على السفر وتحديد الأسعار، وغيرها من القيود الاقتصادية، وهذا في وقت الحرب خاصةً.
الانتقادات الموجهة إلى التقشف
تبقى فعالية التقشف موضع خلاف حاد، إذ يرى مناصروه أن عجز الموازنة الكبير يخنق الاقتصاد ما يؤدي إلى الحد من العائد الضريبي، ويؤمن معارضوه بأن البرامج الحكومية هي السبيل الوحيد لتعويض انخفاض الاستهلاك في أوقات الكساد. يؤمن الكثيرون بأن خفض الإنفاق الحكومي يؤدي إلى مستويات كبيرة من البطالة، ويقترحون أن الإنفاق الحكومي السخي يقلل منها، وعلى ذلك يزيد من عدد دافعي ضريبة الدخل.
يرى اقتصاديون، مثل جون مينارد كينز مؤسس الاقتصاد الكينزي، أن دور الحكومة يقتضي زيادة الإنفاق في أثناء الكساد لتعويض انخفاض الطلب، يكمن المنطق هنا في أن عدم دعم الحكومة للطلب، وعدم الحفاظ على استقراره، يفضي إلى استمرار ارتفاع البطالة وإطالة أمد الكساد.
لكن التقشف يناقض مدارس اقتصادية محددة سادت أفكارها منذ الكساد الكبير، إذ يقلص تدني الدخل الخاص في فترات الكساد الإيرادات الضريبية التي تحصل عليها الحكومة، وبالمثل تملأ هذه الإيرادات خزائنها في فورة الاقتصاد. تكمن المفارقة في أن الحاجة إلى النفقات العامة، مثل إعانات البطالة، تزداد في أوقات الكساد، لا الازدهار.
أمثلة على سياسات التقشف:
الولايات المتحدة
يُعد نموذج التقشف الذي طبقته الولايات المتحدة بين عامي 1920 و1921 أحد أنجح النماذج التي استُخدمت في مواجهة الكساد. قفزت نسب البطالة في الولايات المتحدة من 4% إلى 12% تقريبًا، وخسر الناتج القومي الإجمالي نحو 20% من قيمته، ما لم تشهده البلاد في أي سنة من سنوات الكساد الكبير.
كان رد فعل الرئيس وارن جي. هاردنغ تقليص الموازنة الفيدرالية بنسبة 50%، وتخفيض الضرائب المفروضة على جميع فئات الدخل، فانخفض الدين بنسبة تفوق 30%، وأعلن هاردنغ في خطاب له عام 1920: «تقود إدارتي سياسةً انكماشية جريئة وواعية، وستكافح مديونية الحكومة وتكاليفها الباهظة بكل طاقتها وبأي وسيلة متاحة».
اليونان
فرض الاتحاد الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي إجراءات تقشفية حادة على اليونان مقابل حصولها على حزم المساعدات، إذ هدفت تلك الإجراءات إلى إعادة السيطرة على الأوضاع المالية في البلاد.
حد البرنامج -الذي لم يحظ بشعبية- من الإنفاق العام، ورفع معدلات الضريبة، وجاء هذا على حساب موظفي القطاع العام غالبًا. انخفضت ديون اليونان انخفاضًا ملحوظًا، مع هذا لم تثمر سياسات التقشف في معالجة الأزمة الاقتصادية، إذ فشلت في تطوير الحالة المالية، وظلّت البلد تعاني انخفاضًا حادًا في الطلب الكُلي، وهي ظاهرة حتمية ترافق تطبيق سياسة التقشف.
لم تساعد هيكلية الاقتصاد اليوناني -المكون من مجموعة من الأعمال الصغيرة، لا الشركات الضخمة- على الاستفادة من إجراءات التقشف، فلا تملك الأعمال الصغيرة القدرة على استغلال إجراءات مثل خفض معدلات الفائدة، ولم تتحول إلى التصدير مع انخفاض قيمة العملة.
وفي حين تعافت أكثر الدول من أزمة عام 2008، غرقت اليونان في الكساد وهبط الناتج القومي الإجمالي من 299.36 مليار دولار عام 2010 إلى 235.57 مليار عام 2014، ما سبب ضررًا بالغًا للاقتصاد، كما حدث في كساد الولايات المتحدة الكبير في الثلاثينيات.
ترجع المشكلة في اليونان إلى فترة تلت الأزمة المالية العالمية، إذ كانت البلاد تنفق أموالًا تفوق ما تجنيه من ضرائب. ومع انفلات الأوضاع المالية، ارتفعت معدلات الفائدة على الديون السيادية بشدة، وانحصرت خياراتها في طلب المساعدة أو التخلف عن سداد ديونها، علمًا أن تخلفها عن السداد كان يعني انهيار نظامها المصرفي بالكامل، مع أزمة مالية تامّة كانت لتقود اليونان إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي.
اقرأ أيضًا:
الفوائد على القروض: ما الفرق بين الفائدة البسيطة والفائدة المركبة؟
ترجمة: مالك عوكان
تدقيق: راما الهريسي
مراجعة: أكرم محيي الدين