عندما أطلق الفيزيائي الأمريكي روبرت هوفستاتر الحائز على جائزة نوبل وفريقه إلكترونات عالية الطاقة في قارورة صغيرة من الهيدروجين في مركز المعجل الخطي ستانفورد (SLAC) عام 1956، فتحوا الباب لعصر جديد من الفيزياء.
حتى ذلك الحين، كان يُعتقد أن البروتونات والنيوترونات، التي تشكل نواة الذرة هي الجسيمات الأولية في الطبيعة، ويُنظر إليها بوصفها نقاطًا في الفضاء تفتقر إلى الأبعاد المادية. أما الآن اتضح أن هذه الجسيمات لم تكن أوليةً على الإطلاق ولها حجم وبنية داخلية معقدة أيضًا.
ما رآه هوفستاتر وفريقه كان انحرافًا بسيطًا في طريقة انتشار الإلكترونات أو ارتدادها عند اصطدامها بالهيدروجين؛ يشير هذا إلى كونها نواةً أكثر من كونها البروتونات والنيوترونات الشبيهة بالنقاط المتخيلة.
بشرت التجارب التالية في جميع أنحاء العالم على المسرعات، الآلات التي تدفع الجسيمات إلى طاقات عالية جدًا، بتحول نموذجي في فهمنا للمادة. ومع ذلك، ما زلنا لا نعرف الكثير عن النواة الذرية، بالإضافة إلى القوة الكبيرة، وهي إحدى القوى الأساسية الأربعة للطبيعة التي تربطها معًا.
الآن يمكن أن يساعد مُسرِع جديد، وهو مصادم الإلكترون-أيون، في نقل فهمنا للنواة إلى مستوى جديد… سيصنع في السنوات العشر المقبلة في مختبر بروكهافن الوطني في لونج آيلاند – الولايات المتحدة، بمساعدة 1300 عالم من جميع أنحاء العالم.
قوة قوية لكنها غريبة تتعلق بالجسيمات
بعد اكتشافات خمسينيات القرن الماضي، سرعان ما أصبح واضحًا أن الجسيمات المسماة بالكواركات والغلوونات هي اللبنات الأساسية للمادة: هي مكونات الهادرونات؛ وهو الاسم المشترك للبروتونات والجسيمات الأخرى.
يتخيل الناس أحيانًا أن هذه الأنواع من الجسيمات تتلائم معًا مثل لعبة الليغو، مع كواركات في شكل معين تشكل البروتونات، ثم تقترن البروتونات والنيوترونات لتكوين النواة، وتجذب النواة الإلكترونات لبناء الذرة. لكن الكواركات والغلوونات ليست سوى لبنات ثابتة.
تصف نظرية تسمى الديناميكا اللونية الكمية كيف تعمل القوة القوية بين الكواركات، بواسطة الغلوونات، وهي حاملات القوة. ومع ذلك لا يمكن أن تساعدنا في حساب خصائص البروتون بشكل تحليلي. هذا ليس خطأً في نظريتنا أو أجهزة الكمبيوتر لدينا؛ المعادلات نفسها ببساطة غير قابلة للحل.
هذا هو السبب في أن الدراسة التجريبية الكلية للبروتون والهادرونات الأخرى مهمة للغاية: إذ لفهم البروتون والقوة التي تربطه يجب دراسته من كل الجوانب.
لهذا فالمسرّع هو أقوى أداة لدينا. ومع ذلك عندما تنظر إلى البروتون بمصادم (نوع من المسرع يستخدم شعاعين)، فإن ما نراه يعتمد على مدى العمق، وبواسطة ماذا ننظر؛ أحيانًا يظهر على شكل ثلاثة كواركات أساسية، وفي أوقات أخرى كمقدار هائل من الغلوونات، أو عدد هائل من أزواج الكواركات وجسيماتها المضادة (الجسيمات المضادة شبه متطابقة مع الجسيمات، لكنها تمتلك شحنةً معاكسةً أو خصائص كمومية أخرى).
لذا، في حين أن فهمنا للمادة في هذه المقاييس الصغيرة أحرز تقدمًا كبيرًا في السنوات الستين الماضية، ما يزال يوجد العديد من الألغاز التي لا تستطيع أدوات اليوم معالجتها بالكامل.
ما هي طبيعة حجز الكواركات داخل هادرون؟ كيف تنشأ كتلة البروتون من كواركات عديمة الكتلة تقريبًا، والأخف بألف مرة؟
نحتاج إلى مجهر يمكنه تصوير بنية البروتون والنواة عبر أوسع نطاق من التكبير بتفاصيل شديدة للإجابة على أسئلة كهذه وبناء صور ثلاثية الأبعاد لهيكلها وديناميكيتها. هذا بالضبط ما سيفعله المصادم الجديد.
الإعداد التجريبي
سيستخدم مصادم الأيونات الإلكترونية (EIC) شعاعًا شديد الكثافة من الإلكترونات لتحقيق ذلك، وسيمكننا من إلقاء نظرة على الهيكل الموجود بداخل البروتون أو النواة، سيحدث ذلك عن طريق اصطدام حزمة من الإلكترونات بحزمة من البروتونات أو الأيونات (الذرات المشحونة) والنظر في كيفية انتشار الإلكترونات. الشعاع الأيوني هو الأول من نوعه في العالم.
ستصبح التأثيرات التي بالكاد يمكن إدراكها، مثل عمليات الانتشار التي تعتبر نادرةً جدًا إذ لا يمكنك ملاحظتها إلا مرةً واحدةً في مليار تصادم، مرئيةً.
سيتمكن روبرت وعلماء آخرون من الكشف عن بنية الجسيمات: البروتونات والنيوترونات من خلال دراسة هذه العمليات، وكيف تتغيّر عند ارتباطها بالقوة الشديدة، وكيف تُكوّن الهادرونات الجديدة. ويمكننا أيضًا من الكشف عن نوع المادة المكونة من الغلوونات النقية وهو شيء لم يُرَ من قبل.
سيُضبَط المصادم على نطاق واسع من الطاقات بشكل يشبه تحريك قرص التكبير على مجهر، فكلما زادت الطاقة، بدا ما بداخل البروتون أو النواة أعمق، وكانت خواصه أدق.
بالإضافة إلى أن التعاون المتشكل حديثًا من العلماء في جميع أنحاء العالم، وهو جزء من فريق (EIC)، يصمم أيضًا أجهزة الكشف التي ستوضع في نقطتي تصادم مختلفتين في المصادم.
تقود فرق المملكة المتحدة نواحٍ منهذا الجهد إذ حصلت للتو على منحة لقيادة تصميم مكونات ثلاث رئيسية للكاشفات وتطوير التقنيات اللازمة لتحقيقها:
أجهزة استشعار للتتبع الدقيق للجسيمات المشحونة، وأجهزة استشعار للكشف عن الإلكترونات المنتشرة بشكل وثيق للغاية على خط الحزمة وأجهزة الكشف لقياس الاستقطاب (اتجاه الدوران) للجسيمات المنتشرة في التصادمات.
بينما قد يستغرق الأمر 10 سنوات أخرى قبل أن يُصمم ويُصنع المصادم بالكامل، فالمرجح أنه يستحق الجهد المبذول فيه. إذ يُعد فهم بنية البروتون، من خلال القوة الأساسية التي تسبب أكثر من 99٪ من الكتلة المرئية في الكون، أحد أكبر التحديات في الفيزياء اليوم.
اقرأ أيضًا:
نتائج جديدة من مصادم الهدرونات الكبير تتطلب فيزياء جديدة لتفسيرها
ما هو مصادم الهادرونات الكبير ؟
ترجمة: عمرو أحمد حمدان
تدقيق: أحمد مهدلي
مراجعة: آية فحماوي