عندما يحكم الانكماش قبضته على الاقتصاد، قد يتطلب الخروج منه عقودًا من الزمن، فاليابان على سبيل المثال ما زالت تحاول التعافي من أزمة الانكماش التي بدأت عام 1990 وأدت إلى ما يُعرف بعقود اليابان الضائعة.
ولكن ماذا يمكن أن تفعل البنوك المركزية لمحاربة آثار الانكماش القاتلة والمدمرة؟
عبر العالم، اتخذت البنوك المركزية في الأعوام الأخيرة إجراءات جدية بأدوات مبتكرة للدفاع عن الاقتصاد ضد الانكماش، ما سنناقش كيفيته في هذا المقال.
آثار الانكماش
الانكماش انخفاضٌ مستمر وعلى نطاق واسع في مستويات الأسعار لفترة من الزمن.
والانكماش نقيض التضخم، ويختلف كلاهما عن الانكماش الطفيف، وهو فترة من الزمن يكون فيها معدل التضخم موجبًا لكنه يتناقص (مثل أن يكون معدل التضخم 10%، وبعدها 9%، وبعدها 8%).
إن الفترات القصيرة من انخفاض الأسعار -كما في حالة الانكماش الطفيف- ليست مضرة بالاقتصاد، فدفع كميات أقل من المال للحصول على السلع والخدمات يزيد من وفرة المال المتبقي بين أيدي المستهلكين، ما يؤدي إلى تحفيز الاقتصاد.
في أغلب الأحيان، وفي سياساتها النقدية، لا تتعامل البنوك المركزية بتشدد وجدية مع الفترات القصيرة من انخفاض معدل التضخم، (أي إنها لا تتدخل بقوة وترفع معدلات الفائدة)، ما يُحفز الاقتصاد أيضًا.
ولكن الانكماش مختلف، وأكبر مشكلة يخلقها أنه يجعل المستهلكين يؤجلون شراء السلع مرتفعة الثمن، مثل المنازل والسيارات والأجهزة (لأن الأسعار في الانكماش تتجه نحو الانخفاض)، وأحد أهم دوافع شراء هذه السلع احتمالية ارتفاع أسعارها (وهذا أحد أسباب فعالية وكفاءة الحسومات المؤقتة للأسعار).
يبلغ حجم الإنفاق الاستهلاكي 70% من الاقتصاد في الولايات المتحدة، ما يعده الاقتصاديون أحد أهم المحركات التي يمكن الاعتماد عليها في دفع الاقتصاد العالمي، وهنا يمكننا تخيل الأثر السلبي لامتناع المستهلكين عن إنفاق المال لأنهم يظنون أن السلع ستكون أرخص في العام القادم.
عندما يبدأ الإنفاق الاستهلاكي بالتناقص، يلحق الضرر تدريجيًّا بقطاع الشركات، التي تبدأ بتأجيل أو تخفيض الإنفاق الرأسمالي (مثل الإنفاق على ملكياتها من الأبنية والمعدات والمشاريع والاستثمارات الجديدة)، وقد تبدأ الشركات بتقليص حجمها وتسريح العمال لكي تحافظ على ربحها.
وهنا يدخل الاقتصاد في حلقة مفرغة بالغة الخطورة، فتسريح الشركات للعمال يهدد بدوره الإنفاق الاستهلاكي، ما يؤدي إلى المزيد من تسريح العمال وزيادة معدل البطالة.
قد يطلق التقلص في إنفاق الشركات والمستهلكين شرارة الركود الاقتصادي، وفي أسوأ الحالات، قد تتطور هذه الحالة إلى كساد تام في الاقتصاد.
وأحد أهم الآثار السلبية للانكماش، أثره في زيادة أعباء الديون، فالتضخم يخفض من القيمة الحقيقة للديون، بينما يزيد الانكماش من قيمتها الحقيقية، فالزيادة في أعباء الديون في فترة الركود تزيد من حالات العجز عن سدادها وإعلان الإفلاس من قِبل العائلات والشركات المدينة.
مخاوف معاصرة من الانكماش
في الأعوام الخمسة والعشرين الماضية، تزايدت المخاوف من الانكماش بعد عدة أزمات مالية وانفجار فقاعات الأصول، وأهم الأمثلة هي الأزمة الآسيوية عام 1997، وفقاعة أسهم شركات التكنولوجيا 2000-2002، والركود الكبير 2008-2009.
أصبحت لهذه المخاوف أولوية في الأعوام الأخيرة، بسبب ما حصل في اليابان بعد انفجار فقاعة الأصول فيها في بداية تسعينيات القرن الماضي.
ارتفع الين الياباني بنسبة 50% بداية ثمانينيات القرن الماضي، ما أدى إلى الركود عام 1986، ولتدارك هذه المشكلة، أطلقت اليابان برنامجًا للتحفيز المالي والنقدي. أدى ذلك إلى ظهور فقاعة أصول هائلة، إذ تضاعفت أسعار الأسهم اليابانية وأسعار الأراضي في المدن ثلاث مرات في النصف الثاني من ثمانينيات العقد الماضي. انفجرت الفقاعة عام 1990، مع خسارة مؤشر بورصة نيكي ثلث قيمته في عام واحد (بورصة نيكي أهم سوق بورصة في اليابان)، معلنًا بداية انخفاض استمر حتى أكتوبر 2008، ما أفقد مؤشر نيكي 80% من قيمته بعد ارتفاعه في كانون الأول عام 1989.
أدى ذلك إلى رسوخ حالة الانكماش في الاقتصاد الياباني الذي كان أحد أسرع الاقتصادات نموًّا في العالم في الفترة بين 1960 و1980، وتباطأ بعدها بصورة حادة.
بلغ النمو السنوي في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي الياباني معدل 1.1% فقط منذ عام 1990، حتى إن القيمة الاسمية للناتج المحلي الإجمالي عام 2013 كانت أقل بنسبة 6% من مستواها في أواسط التسعينيات تقريبًا.
أثار الركود الكبير 2008-2009 (الذي ضرب الولايات المتحدة وامتد منها إلى العالم أجمع) المخاوف من حصول حالة مشابهة من الانكماش طويل الأمد في الولايات المتحدة وغيرها من الدول، بسبب الانهيار الكارثي الذي أصاب أسعار الأصول بمختلف أنواعها (العقارات والأسهم وضمانات الرهن العقاري والسلع).
تطور الأمر آنذاك ليُصاب النظام المالي العالمي بالاضطراب والفوضى بسبب حالة التعثر المالي التي أصابت عددًا من البنوك والمؤسسات المالية الكبرى في الولايات المتحدة وأوروبا، وأهم مثال إعلان بنك ليمان بروذرز إفلاسه في أيلول عام 2008.
انتشرت على نطاق واسع مخاوف من انهيار أعداد كبيرة من البنوك والمؤسسات المالية مثل قطع الدومينو، ما سيؤدي إلى انهيار النظام المالي العالمي، وتحطّم ثقة المستهلكين، وحدوث حالة انكماش مطلقة.
كيف حاربت البنوك المركزية الانكماش
لجأت البنوك المركزية تاريخيًّا لاتباع سياسات نقدية غير تقليدية لتحفيز الاقتصاد ومحاربة الانكماش.
في كانون الأول عام 2012، أطلق رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي برنامجًا سياسيًّا واعدًا للقضاء على الانكماش وإنعاش الاقتصاد تحت اسم «أبينوميكس». يرتكز هذا البرنامج على ثلاثة عناصر: الأول هو التسهيل النقدي، والثاني هو السياسة المالية المرنة، والثالث هو الإصلاحات البنيوية.
أعلن بنك اليابان في نيسان عام 2013 عن برنامج بالغ الأهمية للتيسير الكمي، إذ أعلن البنك المركزي أنه سيشتري السندات الحكومية اليابانية ويضاعف قاعدته المالية إلى 270 ترليون ين ياباني حتى نهاية 2014 بهدف إنهاء الانكماش وتحقيق تضخم بنسبة 2% بحلول عام 2015.
وهدفت هذه السياسة أيضًا إلى تخفيض العجز المالي بحلول عام 2015 إلى نصف قيمته التي بلغت 6.6% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2010، والوصول إلى مرحلة وجود فائض بحلول عام 2020، ولتحقيق هذه الأهداف بدأت هذه السياسة برفع ضريبة البيع في اليابان من 5% إلى 8% في نيسان عام 2014.
أما الإصلاحات البنيوية، فتطلبت إجراءات جريئة للتعويض عن الآثار الناجمة عن العدد الهائل للمواطنين كبار السن، مثل السماح بالعمالة الأجنبية وتوظيف النساء والعمال كبار السن.
أطلق المصرف المركزي الأوروبي نسخته الخاصة من التيسير الكمي في كانون الثاني عام 2015، عندما تعهد بشراء سندات بقيمة 1.1 ترليون يورو على الأقل بحلول أيلول عام 2016، بمعدل 60 مليار يورو شهريًّا.
بدأ المصرف المركزي الأوروبي خطة التيسير الكمي هذه متأخِّرًا عن الاحتياطي الفدرالي بست سنوات، في محاولة منه لدعم تعافي الاقتصاد الأوروبي (الذي لم يكن بالمستوى المطلوب) وتلافي الانكماش، بعدما وضع خطة غير مسبوقة لتخفيض معدلات الفائدة القياسية إلى ما دون 0% أواخر عام 2014، وكان نجاح هذه الخطة محدودًا.
كان المصرف المركزي الأوروبي أول مصرف مركزي كبير يُطبق سياسة أسعار الفائدة السالبة، وبعده تبنت عدة مصارف مركزية أوروبية هذه السياسة، من بينها المصارف المركزية في السويد والدنمارك وسويسرا.
ولكن، ما عواقب هذه الإجراءات؟
العواقب المقصودة وغير المقصودة
أثرى تدفق النقود في النظام المالي العالمي الناجم عن برامج التيسير الكمي وغيره من الإجراءات أسواق الأسهم، وفي نيسان عام 2015، تجاوزت القيمة السوقية للأسواق العالمية 70 ترليون دولار لأول مرة في التاريخ، وهي زيادة بنسبة 175% عن القيمة الدنيا في آذار عام 2009 التي بلغت 25.5 ترليون دولار.
تضاعفت قيمة مؤشر ستاندرد آند بورز 500 ثلاث مرات منذ بداية برامج التيسير الكمي، وإن قيمة الكثير من مؤشرات الأسواق المالية في أوروبا وآسيا في أعظم مراحلها حاليًّا.
ولكن الأثر في الاقتصاد الحقيقي أقل وضوحًا. ووفقًا لتقارير وكالة رويترز المبنية على تقديرات مكتب الميزانية في الكونغرس الأمريكي، مع تلاشي سياسات التحفيز المالي فإن النمو في الاقتصاد الأمريكي سيتباطأ في 2019 إلى ما دون الهدف الذي وضعته إدارة الرئيس ترامب ويبلغ معدل 3%.
ولكن الإجراءات المشتركة التي اتخذتها البنوك المركزية لمحاربة الانكماش عالميًّا لها عدة عواقب غريبة منها:
- تضخم الميزانيات العامة للبنوك المركزية:
أدى شراء الأصول على نطاق واسع من قبل الاحتياطي الفيدرالي ومصرف اليابان والمصرف المركزي الأوروبي إلى زيادة حجم الميزانيات العامة للبنوك المركزية بمستويات قياسية.
وعلى سبيل المثال، ازداد حجم الميزانية العامة للاحتياطي الفيدرالي من أقل من 870 مليار دولار في آب عام 2007 إلى أكثر من 4 ترليون دولار في تشرين الأول عام 2018.
وقد يحمل تقليص حجم هذه الميزانيات العامة عواقبًا وخيمة في المستقبل.
- قد يؤدي التيسير الكمي إلى حرب عملات خفية:
أدت برامج التيسير الكمي إلى انخفاض قيمة عدة عملات كبرى أمام الدولار الأمريكي، ومع استنفاد كثير من الدول خياراتها لتحفيز النمو، قد تكون الأداة الوحيدة المتبقية لتحفيز النمو الاقتصادي تخفيض قيمة العملة، ما قد يؤدي إلى حرب خفية بين العملات.
- أصبحت قيمة عائدات السندات الأوروبية سالبة:
أصبحت عائدات أكثر من ربع سندات الديون التي أصدرتها الحكومات الأوروبية سالبة، ما قد يكون نتيجةً لبرنامج البنك المركزي الأوروبي لشراء السندات، وقد يكون دليلًا على تباطؤ اقتصادي حاد مستقبلًا.
الخلاصة
تبدو الإجراءات التي اتخذتها المصارف المركزية لمحاربة الانكماش ناجحةً حتى الآن، لكنه من المبكر معرفة إن كانت قد حسمت القضية نهائيًّا.
تكمن المخاوف غير المعلنة في احتمالية أن البنوك المركزية استخدمت معظم أو كامل ذخيرتها في حربها مع الانكماش.
إن كانت محاربة الانكماش هي أبرز قضية في الأعوام القادمة، فقد يكون الانتصار عليه أمرًا بالغ الصعوبة.
اقرأ أيضًا:
كيف حدث التضخم الكبير في سبعينيات القرن الماضي؟
ترجمة: كميت خطيب
تدقيق: علي البيش
مراجعة: رزان حميدة