لماذا يطارد الفيزيائيون أغرب الجسيمات الشبحية أو النيوترينوات ؟ في كل ثانية من كل يوم تضربك تريليونات الجزيئات دون الذرية الهاطلة من أعماق الفضاء، تمر خلالك بقوة إعصار كوني وتعصف بسرعة تقارب سرعة الضوء. هذه الجسيمات تأتي من كل مكان في السماء، في كل وقت من النهار والليل. تخترق المجال المغناطيسي للأرض والغلاف الجوي الذي يحمينا تمامًا كالزبدة. ورغم ذلك لا يتحرك الشعر فوق رأسك فماذا يحدث بالضبط؟ أنها النيوترينوات أو ( الجسيمات الشبحية) كما يسميها الفيزيائيون .
المحايد الصغير:
تلك الرصاصات متناهية الصغر تسمى (النيوترينوات). مصطلح صيغ سنة 1934 بواسطة الفيزيائي اللامع إنريكو فيرمي. الكلمة الإيطالية تعني (المحايد الصغير). وكان مفترضًا أن وجود هذه الجسيمات الشبحية يفسر واحدةً من أكثر التفاعلات النووية المثيرة للفضول. أحيانًا تكون العناصر غير مستقرة بعض الشيء، وإذا تركت لفترة طويلة على تلك الحال فإنها تتفكك متحولةً إلى شيء آخر، شيء أكثر خفةً في الجدول الدوري للعناصر. بالإضافة إلى ذلك، يغادر أحد الإلكترونات مداره. لكن في سنة 1920، وعبر المراقبة الدقيقة لهذه العناصر المتحللة، اكتشفت بعض التناقضات البسيطة والمزعجة. كانت الطاقة المتاحة في بداية العملية أكبر قليلًا من الطاقة الناتجة عنها، في حين أن الكتلة ظلت كما هي، لذا ابتكر بعض الفيزيائيين جسيمًا جديدًا بإمكانه حمل الطاقة المفقودة، شيء صغير وخفيف وبلا شحنة، جسيم يمكنه المرور دون أن تلاحظه أجهزة الرصد.
جسيم صغير محايد (نيوترينو):
استغرق التأكيد على وجود هذه الجسيمات بعض العقود -هذه الجسيمات زلقة ومتسللة وخبيثة إلى هذه الدرجة- لكن في سنة 1956 انضمت النيوترينوات إلى العائلة المتنامية للجسيمات المؤكد وجودها والقابلة للقياس. وعند هذه النقطة أصبحت الأمور أكثر ريبةً.
النكهة المفضلة:
ازدادت المشكلة باكتشاف الميون، وكانت المصادفة أن حدث ذلك في نفس التوقيت الذي بدأت فيه فكرة النيوترينو باكتساب أرضية في سنة 1930. يعتبر الميون مطابقًا للإلكترون من ناحية الشحنة والدوران لكنه يختلف من ناحية الوزن، فهو يزن حوالي 200 مرة أكثر من الإلكترون. يساهم الميون في نوعه الخاص من التفاعلات، لكنه لا يميل إلى البقاء طويلًا. وبسبب حجمه المهول فهو غير مستقر وسرعان ما يتفكك -خلال جزء أو جزأين من الثانية- إلى دفقات من الفتات. جيد.. لماذا إذًا تشارك الميونات في قصة النيوترينو؟
لاحظ الفيزيائيون أنه في تفاعلات التحلل التي اقترحت وجود النيوترينو دائمًا ما ينطلق أحد الإلكترونات. وفي بعض التفاعلات الأخرى يغادر أحد الميونات مكانه. ولتفسير تلك المشاهدات افترض أنه في حالات التحلل يتحد النيوترينو مع الإلكترون. وطالما كان ذلك النوع من النيوترينوات لا يفسر الظاهرة الخاصة بالميون، فلا بد أن ثمة نوع آخر غير من مكتشف من النيوترينوات يتحد مع الميون. استمر البحث طويلًا حتى سنة 1962 عندما رصد الفيزيائيون النوع الثاني من النيوترينوات. أطلق على هذا النوع اسم نيوتريتو، لكن ساد بعد ذلك رأي المجموعة التي أطلقت عليه اسم نيوترينو الميون؛ ذلك لأنه يرتبط دائمًا في التفاعل مع الميون.
طريقة التاوون:
حسنًا، نوعان مؤكدان من النويترينوات. هل تخفي الطبيعة المزيد؟ في سنة 1975 كشفت مجموعة من الباحثين في مركز ستانفورد للتسريع الخطي عبر غربلة الكثير من البيانات أن ثمة أخًا أكبرَ للإلكترون الرشيق والميون البدين. العملاق تاوون الذي تخطت ضخامته 3500 مرة كتلة الإلكترون.. يا له من جسيم كبير. وعلى الفور أصبح السؤال «إذا كان ثمة عائلة من ثلاثة جسيمات (الإلكترون والميون والتاوون) فهل من الممكن أن يكون هناك نيوترينو ثالث ليتزاوج مع المخلوق المكتشف حديثًا؟».
ربما، ربما لا. ربما هناك اثنان فقط، ربما أربعة، أو حتى 17 نيوترينو. لم تتوافق الطبيعة مع توقعاتنا من قبل لذا لا سبب لأن تفعل ذلك الآن. بتجاوز الكثير من التفاصيل، يمكننا القول أن العلماء أقنعوا أنفسهم عبر العقود أن نوعًا ثالثًا من النيوترينوات موجود بالضرورة. لكن لم يتأكد ذلك حتى نهاية الألفية، في سنة 2000 حين سجلت أخيرًا أول حالة رصد للنيوترينو الثالث في تجربة مصممة خصيصًا لهذا الغرض أطلق عليها (تجربة دونات – (Direct Observation of NU Tau)DONUT )
مطاردة الأشباح:
إذًا لماذا نهتم بالنيوترينوات لهذه الدرجة؟ لماذا نطاردهم منذ حوالي 70 سنةً، قبل الحرب العالمية الثانية وحتى العصر الحديث؟ لماذا انبهرت أجيال من العلماء بهذه الأجسام الصغيرة المحايدة؟ السبب هو أن النيوترينوات دائمًا ما تعيش خارج توقعاتنا. لم نكن متأكدين تمامًا من وجودهم لفترة طويلة. ولفترة طويلة اقتنعنا بأن لا كتلة لهم، حتى أزعجتنا التجارب باكتشاف كتلتهم -مقدار كتلتهم بالضبط ما زال مشكلةً حتى الآن- بالإضافة إلى أن النيوترينوات لديها تلك العادة المزعجة من تغيير صفاتها أثناء سفرها. أثناء سفر النيوترينو، بإمكانه تبديل قناعه بين الأشكال الثلاثة، كما يمكن أن يبقى نيوترينو غير مشارك في أية من تلك التفاعلات، وهو ما يعرف باسم النيوترينو العقيم، وهو ما يحاول الفيزيائيون اليوم اصطياده. بصياغة أخرى، النيوترينوات تتحدى باستمرار كل ما نعرفه عن الفيزياء. وإذا كان ثمة ما نحتاجه سواءً في الماضي أو المستقبل فهو التحدي.
ترجمة: مصطفى عبد المنعم تدقيق: علي فرغلي