تزداد تجارب دراسة فيزياء الجسيمات تعقيدًا كلما تعمقنا أكثر في بحثنا لفهم طرق عمل الكون. ليستطيع الفيزيائيون فهم أسرار عمل الجسيمات دون الذرية ، يحتاجون إلى جعل المصادمات والكاشفات باردة قدر المستطاع، والتخلص من أكبر قدر من الهواء، وتثبيت العوامل الأخرى للحصول على نتائج موثوقة.
لذلك يطرح أحد الفيزيائيين سؤالًا: ماذا لو أجرينا هذه التجارب على سطح القمر ؟
ترجح مقالة تتضمن هذا الاقتراح أن القمر في الحقيقة مكان مناسب لإجراء التجارب الفيزيائية عالية الطاقة.
القمر بارد للغاية. دون غلاف جوي أو مياه، لا يوجد وسط ينقل حرارة الشمس من نقطة إلى أخرى. ليلًا عندما تغيب الشمس، تنخفض درجة الحرارة إلى سالب 73 درجة مئوية، وهذا ضمن نطاق درجات الحرارة المطلوبة في المبردات المستخدمة في التجارب الأرضية.
أما نهارًا فترتفع الحرارة إلى 38 درجة مئوية. يثبت وجود الجليد في الفوهات القمرية أن كل ما يلزم للتبريد هو الوجود في الظل؛ لعدم وجود هواء أو ماء أو أي وسط آخر قادر على نقل حرارة الشمس من مناطق تأثيرها المباشر.
يحتاج الفيزيائيون إلى درجات حرارة منخفضة لعدة أسباب. في مسرعات الجسيمات، لا بد من خفض درجة الحرارة حتى لا تذوب المغناطيسات فائقة التوصيل المستخدمة لقذف الجسيمات بسرعات تقارب سرعة الضوء. إضافةً إلى أنه كلما زادت درجة الحرارة، صعب على الأجهزة اكتشاف الإشارات القادمة من الجسيمات دون الذرية من بين الضوضاء، إذ تسبب الحرارة المزيد من الاهتزازات التي تولد الضوضاء.
إلى جانب انخفاض درجات الحرارة، يُعَد عدم وجود الغلاف الجوي ميزة أخرى لإجراء هذه التجارب على القمر. يحتاج الفيزيائيون عادةً إلى سحب الهواء من المسرعات وأجهزة الكشف، لتلافي اصطدام جسيمات تقترب سرعتها من سرعة الضوء بجزيئات النيتروجين (المكون الأساسي للهواء). دون أي جهد، يمتلك القمر فراغًا أفضل بأضعاف من أي شيء استطاع العلماء تحقيقه على الأرض.
وأخيرًا ظاهرة التقييد المدي، التي تعني أن دورة الجرم حول محوره تساوي دورته حول الجسم الذي يدور حوله، وهذا ما يجعل المراقب على كوكب الأرض يرى وجهًا واحدًا للقمر فقط. توفر هذه الظاهرة فرصة إصدار شعاع من القمر ليصل إلى جهاز الكشف في أحد المختبرات على الأرض دون صعوبة في محاذاة النظام.
مصنع النيوترينو على القمر
قد يكون استخدام تجارب الفيزياء القمرية مصدرًا للنيوترينوات هو المكافأة الأكبر. النيوترينوات هي جسيمات أولية صغيرة الكتلة جدًا، تقارب الصفر، ومتعادلة الشحنة. تمكنها خصائصها من اختراق المواد دون أن يعترضها شيء، تصطدم المليارات من النيوترينوات بجسدك في هذه اللحظة بالذات!
إن النيوترينوات بالتأكيد صعبة الفهم والدراسة. لكنها تنتج بكميات ضخمة في التفاعلات النووية، لذا يستطيع العلماء وضع محطة طاقة نووية على سطح القمر، وبعد وصول النيوترينوات إلى الأرض، تمكن دراستها بالتفصيل.
إحدى الخصائص المزعجة الغامضة للنيوترينوات هي قدرتها على تغيير نوعها في أثناء تحركها. يمكِّن العلماء هذه الجسيمات من تغيير نوعها بمنحها مسافةً أكبر بين صدورها وكشفها، ما يساعدهم على التوصل إلى فهم أفضل لها. لهذا يُعَد القمر مصدرًا مثاليًا، فهو بعيد كفاية حتى تستطيع الجسيمات التغير، وقريب كفاية ليستطيع العلماء التقاطها بكميات كافية لدراستها، وإصلاح النظام إن حدثت مشكلة.
من يحتاج إلى الأرض على أي حال؟
النيوترينوات ليست الجسيمات الوحيدة التي يمكن إرسالها من القمر إلى الأرض. حتى أقوى مصادمات الجسيمات التي نمتلكها لا تقترب من الطاقة المستخدمة في إنتاج هذه الجسيمات وإرسالها طبيعيًا (إن أردنا الدقة، لا يمكننا حتى الاقتراب من واحد على المليار من هذه الطاقة!). في كل ثانية، تصطدم جسيمات عالية الطاقة بجزيئات غلافنا الجوي مُطلقةً وابلًا من الجسيمات التي تسقط على الأرض.
تأتي هذه الجسيمات من أكثر المصادر طاقةً في الكون، مثل المستعرات العظمى، ويُطلق عليها اسم الأشعة الكونية، وهي غير مفهومة تمامًا. لذا قد يكون شعاع كوني يصطدم بالغلاف الجوي مفيدًا لو تمكنا من دراسته. نظريًا، قد تصدر المنشأة على القمر كميات كبيرة من الجسيمات وتطلقها على غلافنا الجوي، ومن ثم يستطيع العلماء رصدها، ما يساعدهم على فهم الطاقة الكونية العالية.
لكن لماذا نتوقف هنا؟ لم لا نضع أجهزة الكشف على سطح القمر أيضًا؟ إن إجراء تجربة فيزيائية مع وجود المصدر والمسرع والكاشف جميعًا على القمر يقدم عدة مزايا مقارنةً بنظام مماثل على الأرض. العنصر الأهم هو الحاجة إلى وسط من الفراغ يمكن التحكم فيه، ما يضع قيودًا على التجارب التي تُجرى على الأرض.
لكن على القمر، يتوفر الفراغ دون أي جهد. وهذا أفضل بمراحل مما يتحقق في التجارب الأرضية باستخدام مصادم الجسيمات. يمكن بناء المنشأة بأي حجم وأي تصميم دون الحاجة إلى استعمال مضخة هواء، وتلك هي الميزة الأساسية لعمل هذه التجارب على القمر. توجد تحديات تقنية فيما يتعلق بكيفية بناء تلك التجارب المعقدة على القمر، لكن عند حل ذلك يمكننا توقع قفزة كبيرة في الفيزياء، مستمدة من المعلومات الناتجة من تجارب قمرية!
اقرأ أيضًا:
مصادم جسيمات أكبر من منهاتن قد يحل لغز بوزون هيجز
مصادم الهدرونات الكبير (مقالة مفصلة)
ما الذي يعنيه دوران الجسيمات دون الذرية حول نفسها، وهل في ذلك تشابه مع دوران الكواكب؟
ترجمة: محمد لؤي الحليمي
تدقيق: أكرم محيي الدين