نسمع كثيرًا بوجود النّفوس والأرواح، والأشباح والشّياطين، والملائكة و الفضائيين، والمتآمرين السّياسيّين وغيرهم الكثير من العملاء اللّامرئيّين، ذوي القوى والنّوايا المتحكّمة بالعالم والحياة، كما هو شائع عنها، ولكن لماذا ؟
ينقسمُ الجواب إلى جزأين، بدءًا من مفهوم النّمطية، وهو ما يعرف بميل الإنسان للبحث عن أنماط تحمل معنى، في فوضى لا معنى لها.
كأن تتخيّل وجهًا معينًا على سطح المرّيخ، أو مريم العذراء على شطيرة الجبن، أوالآيات الشّيطانيّة مثلًا في موسيقى الروك.
سيبدو بعضًا منها حقيقيًّا بالطّبع.
كما أنّ العثور على أنماط تنبّؤيّة تتعلّق بالتّبدلات المناخيّة، والأشجار المثمرة، وهجرة الحيوانات المُفتَرسَة و المُفترِسة تعتبر مواضيع مركزيّة تخدم الإنسان وتساعد على بقائه.
وتكمن المشكلة في كوننا لم نتمكّن من تطوير جهاز في دماغنا يساعدنا في كشف وتمييز ما هو حقيقي وما هو خاطئ.
ولذلك، فإنّ أخطاءنا يمكن تصنيفها إلى نوعين:
الأوّل منها هو الإيجابيّة الخاطئة، وهو الاعتقاد بصحّة نمط معين لايبدو كذلك في الواقع، أمّا النّوع الثّاني، فهو السّلبية الخاطئة، حينما نصنّف نمطًا معينًا على أنه غير حقيقي، بينما هو العكس تمامًا.
فمثلًا، إذا كنت تعتقد أنّ صوت حفيف العشب قد سبّبه مرور حيوان خطير، في حين أنّه قد صدر بفعل الريّاح، وهذا يعتبر خطأ من النّوع الأوّل، سترتفع احتمالية بقائك على قيد الحياة، مقارنة بالحالة الأخرى، والتي ستعتقد فيها أن هذا الصّوت سبّبته الرّياح بينما الحيوان المفترس هو سببه الحقيقيّ، أي خطأ من النّوع الثّاني، ويعلّل ذلك بأنّ تكلفة الخطأ الأوّل أقلّ ممّا هي عليه في الثّاني، إضافة إلى عدم توفّر ما يلزم من الوقت للتّفكير المتأنّي ولدراسة المعطيات الخاصّة بالتّفاعل بين الفريسة ومفترسها بشكل لحظيّ.
ومع ذلك، نقوم، نحن البشر، ببعض التّصرفات التي لا تبديها حيوانات أخرى.
وإذا دقّقنا أكثر في بعض الكائنات المشابهة لنا، ممّن لديهم قشرة دماغية متطوّرة إلى جانب ما يسمى بنظريّة المنطق ، مضافًا إليها تلك القدرة على إدراك بعض الحالات الذّهنية كالرّغبة والنّوايا لدينا ولدى الآخرين، نستنتج وجود نظامٍ يقوم بملاحظة الأنماط المحيطة بنا، أو كما يُطلق عليه باسم الوكالة Agenticity، يتجلّى عندما يميل الفرد منّا للاعتقاد بوجود وكلاء أو عملاء غيرَ مرئيين يسيطرون على العالم، ونعتقد أحيانًا أنّ هؤلاء العملاء يتلاعبون بنا عمدًا من الأعلى إلى الأسفل (وليس من الأسفل إلى الأعلى كما هو معروف).
ويبدو أنّ النّمطيّة والوكالة تشكّلان الأساس المعرفيّ للشّامانية، والوثنيّة، والعقائد الأخرى التي تصدّق بوجود الأرواح، والشّرك، والتّوحيد، وكلّ ما يخصّ الرّوحانيات، الجديد منها أو القديم.
هذا ويبحر بنا مفهوم الوكالة بعيًدا إلى ما وراء العالم الرّوحاني، ليطلعنا مثلًا على ظاهرة المصمّم الذكيّ، تلك القوّة الخفيّة اللامرئية التي خلقت الحياة من العدم، أو ليخبرنا عن وجود مخلوقات فضائية قُدّمت لنا على أنّها كائنات قويّة تهبط من الأعلى لتحذّرنا من تدميرنا الذّاتيّ لأنفسنا، إضافة إلى مفهوم نظريّات المؤامرة، التي تشمل عملاء مجهولين ومخفيّين، ينفّذون خططهم وأعمالهم خلف الكواليس، ويطرح لنا أيضًا هذا المفهوم دمى متحركة، تتلاعب بالاقتصاد والسّياسة أثناء انشغالنا بالرّقص على أنغام بيلدربرغرس Bilderbergers وروثشيلدس Rothschilds وروكفيليرس Rockefellers أو المتنوّرين، هذا ويمكننا تصنيف الاعتقاد بإمكانيّات الحكومة وقدرتها على فرض بعض الاحتياطات كي تنقذ الاقتصاد، على أنه شكلٌ من أشكال الإيمان بالوكالة، ويبدو لنا وصف الرئيس باراك أوباما Barak Obama ب” الواحد ” صاحب القوى المُنقذة خير تعبير موضّح لمفهوم الوكالة أيضًا.
وتشير أدلّة جوهرية من علم الأعصاب المعرفيّ إلى أنّ الإنسان يربط بين الأنماط التي يجدها وبين مفهوم الوكالات، وقد وُثّقت هذه الأدلّة بشكل جيّد في كتاب (SuperSense HarperOne2009)، للكاتب بروس هود Bruce Hood من جامعة بريستول لعلم النّفس University Of Bristol ، حيث ذكر فيه أنّ الأطفال يعتقدون بقدرة الشمس على التّفكير والملاحقة، وبسبب إيمانهم هذا فَهُم يعملون على إضافة الوجوه الضاحكة على الشّمس خلال رسمها، أمّا البالغون فيرفضون ارتداء سترة القاتل الجماعيّ لاعتقداهم بأن الشّر قوّة طبيعيّة ويمكنها أن تنقل لهم طاقة سلبيّة، وبشكل مخالف للحادثة السّابقة، فَهُم يعتقدون بأنّ سُترة السّيّد روجرز Mr.Rogers ستجعل منهم شخصيّات أفضل.
مثال آخر أيضًا يبيّن لنا أنّ ثلث المرضى الذين يقومون بعمليّات زراعة الأعضاء، يعتقدون أن جزءًا من شخصية المعطي ستنتقل إليهم مع عضوه المنقول، ويعتقد البعض كذلك أنّ الأطعمة التي لها أشكال أعضاء جنسيّة، كالموز والمحار، قد تعزّز القدرة الجنسيّة، و مشاهدة بعض الأشكال الهندسية المتفاعلة مع بقعة محدّدة من العين على شاشة الحاسوب، قد تعطي انطباعًا لدى البعض برؤية عملاء مخفييّن لديهم نوايا أخلاقيّة.
ولمزيد من التوضيح، يقول هود Hood أنّ العديد من الأشخاص الحاصلين على شهادات تعليم عالٍ، لديهم تجارب محسوسة يؤمنون وفقها بوجود أنماط أو قوى أو طاقات أو جهات تقود هذا العالم، ويستطرد قائلًا: “إنّ الجزء الأهمّ في ذلك، هو أن هذه الاعتقادات لم تبثت صحتها علميًا، أو لم يسبق أن أكّدتها أدلّة دامغة، لذلك فلا يمكن اعتبارها سوى مجرد أفكار خارقة للطبيعة وبعيدة عن العلم تمامًا” .
وفي النّهاية، نستطيع القول أنّ هذا الإحساس بوجود قوى خارقة قد وُلد معنا، وأصبحنا نتعامل معه على أنه شيء فطريّ لا يسهل الاستغناء عنه.
- تحرير: حسام صفاء
- المصدر