بعد إصابة الملايين حول العالم بمرض كوفيد-19، سارع الناس لإجراء اختبارات الأجسام المضادة لمعرفة إن كانوا قد تعرضوا لفيروس كورونا أم لا، تكشف هذه الاختبارات عن وجود أجسام مضادة في الدم ترتبط بالفيروس.
ولكن ما الأجسام المضادة؟ وما أهميتها؟ وهل يعطينا وجودها في أجسامنا مناعة ضد الفيروس؟ ولم لا؟
ما الأجسام المضادة؟ وكيف تصنعها أجسامنا؟
هي بروتينات متخصصة تُعرف أيضًا باسم الغلوبولينات المناعية، وظيفتها الارتباط بأجسام ذات أشكال مختلفة -تسمى المستضدات- وتوجد على سطح العوامل المُمْرِضة كالجراثيم والفيروسات. تُنتَج الأجسام المضادة من كريات دم بيضاء متخصصة في الجهاز المناعي تسمى الخلايا اللمفاوية البائية المعروفة أيضًا بالخلايا بي، تملك الخلايا البائية أجسامًا مضادة على سطحها تُمكّنها من التعرف على أي جسم غريب. تتحول الخلايا البائية عندما تتعرض لعامل مُمْرِض إلى خلايا بلازمية وتبدأ إنتاج أجسام مضادة مصممة للارتباط بمستضد هذا العامل المُمْرض.
كيف توقف الأجسام المضادة العدوى؟
تطلق الخلايا البلازمية كميات كبيرة من الأجسام المضادة في الجسم، وتحمينا هذه الأجسام بطريقتين: الأولى بالارتباط بالمستضدات الموجودة على سطح العامل المُمْرِض فتمنعه من دخول الخلايا، وهذه العملية بالغة الأهمية خاصة عند الإصابة بالفيروسات لأن الفيروسات تتضاعف فقط داخل الخلايا، فلا نصاب بالمرض لأن الفيروس لم ينجح في دخول خلايانا.
الطريقة الثانية: ارتباط الأجسام المضادة بالمستضدات يرسل إشارة إلى نوع آخر من كريات الدم البيضاء تُعرف باسم الخلايا البالعة، تبتلع العامل المُمْرض وتدمره. وعلى هذا تُبطِل الأجسام المضادة الفيروسات وتَسِمُها لتدمرها خلايا أخرى.
لماذا ننتج الأجسام المضادة؟
الأجسام المضادة جزء من الاستجابة المناعية المكتَسبة، التي تُحَسَّن وتُوجَّه ضد مستضد معين، فعند الإصابة بالفيروس لأول مرة تتحول بعض الخلايا البائية إلى خلايا بلازمية والبعض الآخر إلى خلايا ذاكرة بائية. وعند الإصابة بنفس المستضد مرة ثانية تتحول خلايا الذاكرة بسرعة إلى خلايا بلازمية تنتج كميات كبيرة من الأجسام المضادة النوعية للمستضد للتصدي للعدوى.
يستغرق تصنيع الأجسام المضادة النوعية للمستضد عند الإصابة به أول مرة عدة أسابيع، أما في الإصابة الثانية فيكون إنتاج الأجسام المضادة أسرع بكثير -في غضون اليوم الأول عادة- ولهذا السبب نعتمد كثيرًا على اللقاحات في حمايتنا من الكثير من العوامل المُمْرضة.
تحتوي اللقاحات على أجزاء من العامل الممرض تنبه جهازنا المناعي لتصنيع أجسام مضادة نوعية للمستضد وإنتاج خلايا ذاكرة، فنكون مستعدين عند التعرض للعامل الممرض مرة ثانية وتستجيب الأجسام المضادة له بسرعة كبيرة.
هل يعني وجود الأجسام المضادة حماية دائمة؟
فيروس كورونا المستجد، فيروس حديث لم يتعرض له البشر قبل الآن، وما زلنا نجهل الكثير عن طريقة استجابة أجسامنا له، وهناك درجات عالية من التباين الفردي -ضمن أي مجموعة سكنية- في استجابة الأجسام المضادة لأي عامل ممرض، من حيث كمية ونوع وجودة الأجسام المضادة التي يصنعها الجسم.
يصنع بعض الأشخاص أجسامًا مضادة عالية الجودة ذات قدرة جيدة على تحديد المستضد الموافق والارتباط به، فترتبط بالفيروس بسرعة وتتخلص منه قبل أن يسبب أي عدوى.
وفي المقابل يصنع أشخاص آخرون أجسامًا مضادة ليست بنفس فاعلية الارتباط بالعامل الممرض وتؤمن حماية جزئية فقط، فهي تبطئ الفيروس لكنه يبقى قادرًا على التسبب بدرجات من العدوى. تظهر بعض الأعراض عند هؤلاء الأشخاص وينقلون الفيروس لفترة أطول.
وهناك أشخاص تنتج أجسامهم كمية قليلة من الأجسام المضادة، أو أجسامًا مضادة منخفضة الجودة، فتكون مناعتهم غير فعالة رغم إنتاج الأجسام المضادة، ويعاني هؤلاء العدوى مدة أطول مع أعراض أكثر شدة، وقد يصابون بنفس الفيروس مرة أخرى، وما زلنا لا نعرف بالضبط عدد هؤلاء الأشخاص بالنسبة لفيروس كورونا.
هل تتشكل الأجسام المضادة دائمًا بعد العدوى؟
تتشكل الأجسام المضادة عادة، بعد الإصابة بالعدوى مباشرة، لكن هناك حالات خاصة لا يحدث هذا فيها.
يشكل الجهاز المناعي المكتَسب جزءًا من الاستجابة المناعية فقط فنحن نمتلك نمطًا آخر يعرف بالجهاز المناعي الفطري. يُعَد الجهاز المناعي الفطري خط الدفاع الأول في الجسم الذي يستجيب أولًا لأي عدوى جديدة، يضم خلايا كالخلايا العدلة والبالعة والمتغصنة. يختلف الجهاز المناعي الفطري عن المكتسب -الذي يضم الأجسام المضادة التي تحتاج وقتًا لتتطور- في كونه يستجيب للمستضدات بسرعة كبيرة ولكن بطريقة غير نوعية، إذ يهاجم أي شيء يبدو غريبًا عن الجسم كمكونات الجدار الخلوي للجراثيم أو الحمض النووي الريبي الفيروسي والحمض النووي الريبي منقوص الأوكسجين. غالبًا ما يقضي الجهاز المناعي الفطري على العدوى قبل أن يستطيع الجهاز المناعي المكتسب تصنيع الأجسام المضادة.
يضم الجهاز المناعي المكتسب الخلايا التائية (الخلايا تي) بالإضافة إلى الخلايا البائية والخلايا البلازمية والأجسام المضادة، سميت الخلايا التائية بهذا الاسم نسبة للغدة الزعترية (الغدة التوتية) حيث تتطور.
تُعَد الخلايا التائية نمطًا آخر من كريات الدم البيضاء التي تستطيع التطور إلى خلايا ذاكرة مثل الخلايا البائية، وتتمايز أيضًا إلى خلايا متخصصة تقتل خلايا الجسم المصابة بالفيروس. تختلف وظائف الخلايا التائية عن الخلايا البائية، إذ تتطور الخلايا البائية إلى خلايا بلازمية منتجة للأجسام المضادة أما الخلايا التائية فتقتل الخلايا المصابة بالفيروس مباشرة.
تحمي الاستجابة المناعية التائية القوية أحيانًا أصحابها من العامل الممرض رغم إنتاجهم كميات قليلة من الأجسام المضادة، لكن قياس الاستجابة المناعية للخلايا التائية أصعب بكثير من قياس الاستجابة المناعية للخلايا البائية وتُقيَّم عادة في الأبحاث المتخصصة فقط.
لماذا نحتاج إلى الاستجابة المناعية المكتَسبة؟
إن الاستجابة المناعية المكتَسبة مهمة لنا لأنها تصبح فور تطورها عالية النوعية ضد العامل الممرض وتزودنا بذاكرة مناعية، ويوفر لنا هذا غرضين أساسيين:
الأول في كونها تساعد على بناء مناعة القطيع، فوجود ذاكرة مناعية ضد العدوى عند عدد كبير من الأشخاص يجعل الموجة الثانية من نفس العدوى تصيب مجموعات أصغر بدلًا من الانتشار الواسع وإرهاق المجتمع والمستشفيات، وهنا تكمن أهمية التباعد الاجتماعي في الحد من انتشار المرض وعدم إرهاق النظام الصحي.
وأما الغرض الثاني، فهو حمايتنا عندما نتقدم في العمر، إذ تستمر ذاكرتنا المناعية فترة طويلة جدًا. يحتفظ كبار السن في الثمانينيات والتسعينيات من العمر بذاكرة مناعية ضد عوامل ممرضة ولقاحات اكتسبوها في طفولتهم، كالإنفلونزا أو لقاح الحصبة.
تبلغ قدرتنا على تكوين ذاكرة مناعية أعظم حالاتها من مرحلة الطفولة حتى المراهقة المتأخرة، وذلك لأن نقي العظم حيث تنضج الخلايا البائية، والغدة الزعترية حيث تنضج الخلايا التائية، يكونان أكثر فعالية وإنتاجية في الأعمار الصغيرة. تتدهور أنظمة الإنتاج هذه في مرحلة البلوغ ونفقد تدريجيًا قدرتنا على توليد استجابة مناعية مكتَسبة قوية ضد العوامل الممرضة الجديدة، ويسوء الوضع أكثر في المراحل المتأخرة من العمر.
وهذا ما يقلقنا بالنسبة لفيروس كورونا، فكبار السن لديهم ذاكرة مناعية فعالة ضد العوامل الممرضة التي تعرضوا لها في الصِغَر ولكن هذا الفيروس جديد لذلك سيواجهون صعوبة في توليد استجابة مناعية مكتسبة ضده. غالبًا ما يتفاقم الوضع مع وجود أمراض أخرى تُضعِف الاستجابات المناعية المكتَسبة.
هل يعني هذا أننا لا نستطيع توليد أجسام مضادة ضد أنواع العدوى الجديدة عندما نكبر بالسن؟
ليس تمامًا، لا تغيب الاستجابة المناعية المكتَسبة مع التقدم في العمر بل تقلّ فقط، فعندما يبلغ المرء الثمانينيات أو التسعينيات من العمر تقل قدرة جسمه على توليد مناعة ضد العوامل الممرضة التي يتعرض لها حديثًا مقارنة بمرحلتي الطفولة والمراهقة.
تتباين الاستجابة المناعية المكتَسبة بين الأفراد تباينًا شديدًا، إذ يتمتع بعض كبار السن باستجابة مناعية مكتسبة ممتازة ضد العوامل الممرضة الجديدة، لكن الغالبية منهم لديهم استجابة ضعيفة.
لماذا لا نعتمد على استجابتنا المناعية الفطرية اعتمادًا كليًّا عندما نفقد قدرتنا على توليد استجابة مناعية مكتسبة؟
يعد هذا أحد أصعب الأسئلة التي مازلنا نجهل إجابتها عن كوفيد-19، إذ يرجّح العلماء أن الاستجابة المناعية الفطرية تبقى سليمة إلى درجة ما طوال الحياة حتى عند كبار السن، لكن المشكلة أننا عندما نمتلك استجابة مناعية مكتسبة ضعيفة، يزداد نشاط استجابتنا المناعية الفطرية لتعويض هذا النقص، وقد يكون هذا سبب اشتداد أعراض وعدوى كوفيد-19 عند كبار السن.
هل لهذا علاقة باشتداد العدوى عند وجود حالات مرضية أخرى؟
تكبح الأمراض المزمنة أجهزتنا المناعية لأنها تقلل من كفاءة عمل أجزاء مختلفة من الجسم وتعاونها مع بعضها. يتكون الجهاز المناعي من شبكة معقدة من العقد اللمفاوية والطحال ونقي العظم بالإضافة إلى أعضاء أخرى، ويحتاج إلى بيئة عمل مناسبة ليستجيب استجابة مناسبة. هذا هو السبب في كون الأشخاص المصابين بالأمراض المزمنة يعانون غالبًا من نقص في المناعة الفطرية والمكتَسبة، لذلك فهم معرضون أكثر لخطورة الإصابة بعدوى أكثر شدة.
لا تدوم كل الأجسام المضادة للأبد، لماذا تغيب الذاكرة المناعية أحيانًا؟
مازال سبب بقاء الذاكرة المناعية ومدة بقائها لكل مرض معدٍ مجهولًا حتى الآن، فالذاكرة المناعية هي إحدى أعقد جوانب علم المناعة وأكثرها غموضًا. كل ما نعرفه عن معظم العوامل الممرِضة أننا نولِّد مناعة قوية طويلة الأمد إذا تعرضنا لأحدها عدة مرات خاصة في مرحلة الطفولة إلى المراهقة.
ومع هذا، لا تدوم الذاكرة المناعية طويلًا كما في الصِغَر، قد يكون لذلك علاقة بالسن الذي تعرضنا فيه للعامل الممرض وبقدرته على تحريض المناعة، وعدد المرات التي تعرضنا فيها له أو أخذنا لقاحًا ضده. تولد أجسامنا العدد الأعظم من خلايا الذاكرة عند التعرض لنفس العامل المُمْرِض من 3 إلى 5 مرات، وهذا يعني أن التعرض له أكثر من 3 إلى 5 مرات لا يزيد العدد الكلي من خلايا الذاكرة.
ما أهمية أن نفهم الأجسام المضادة لفيروس كورونا؟
تدلنا الأجسام المضادة على الأشخاص الذين تعرضوا للعامل المُمْرض وقد تدل على درجة الوقاية من التعرض له مرة أخرى.
ما زلنا نجهل الكثير عن فيروس كورونا، لذلك نحتاج إلى أن نعرف أكثر طريقة استجابتنا له كأفراد وجماعات، خاصة نمط المناعة المتكونة ضده، بالأجسام المضادة أو الخلايا التائية أو كليهما. تزداد قدرتنا بمعرفة هذه المعلومات على تركيب لقاحات آمنة وفعّالة، ونستطيع التنبؤ بمصير المصابين.
اقرأ أيضًا:
كل ما تحتاج إلى معرفته عن فيروس كورونا الجديد (كوفيد-19)
إليك ما يعرفه العلماء عن فيروس كورونا الجديد
ترجمة: رؤى علي ديب
تدقيق: وئام سليمان