تخبرنا نظرية النسبية الخاصة لآينشتاين أن سرعة الضوء هي 300 مليون متر في الثانية. كلنا نعلم سرعة الضوء 299,792,458 كيلومترًا في الثانية، لكن: لماذا لها تلك القيمة تحديدًا؟ لماذا لا يمثلها رقم آخر؟ لماذا نهتم كثيرًا بتلك السرعة العشوائية للموجات الكهرومغناطيسية؟ لماذا أصبح ذلك العدد حجر الزاوية في الفيزياء؟
إخضاع الضوء للتجربة
كان عالم الفلك الدنماركي أولي رومر أول من اكتشف أن للضوء سرعةً معينة، وذلك في أواخر القرن السابع عشر حين امتلكه الشغف بمراقبة أحد أقمار المشتري المسمى آيو ورصد تحركاته الغريبة. كان كوكب المشتري يحجب عنا رؤية قمره الصغير آيو بين الفينة والأخرى مسببًا الكسوف الذي كان يتغير توقيته تباعًا على مدار العام. فهل كان مدار آيو يشهد أمرًا طارئًا مُريبًا؟ أم أن هناك أمرًا آخر؟
استطاع رومر إيجاد صلة بعد بضع سنوات من الملاحظة، فعندما نرى كسوفًا لقمر آيو فإننا نكون في مكان معين من مدارنا حول الشمس، لكن بعد بضعة أيام عندما نرى كسوفًا آخر لآيو سنكون في مكان مختلف قليلًا، ربما أقرب أو أبعد عن المشتري، فإذا كنا أبعد عن آخر مرة رأينا فيها كسوفًا فهذا يعني أن علينا الانتظار وقتًا أطول قليلًا لنرى الكسوف التالي، وذلك لأن الضوء سيستغرق ذلك الوقت الإضافي حتى يصل إلينا، والعكس صحيح لو حصل ذلك وكنا أقرب قليلًا إلى المشتري.
لا يمكن تفسير ذلك التغير في التوقيت بين الكسوف والآخر لقمر آيو إلا إذا كان للضوء سرعةً محدودة.
عززت القياسات المستمرة على مدار القرون اللاحقة قياس سرعة الضوء، لكن زاد الأمر وضوحًا عندما اكتشف كلارك ماكسويل الضوء صدفةً في منتصف القرن التاسع عشر.
كان مفهوم الكهرباء والمغناطيسية شائكًا إلى أن استطاع ماكسويل جمعهما في صورة واحدة فسرت الكثير من الملاحظات المتباينة، واضعًا بذلك حجر الأساس لما يُعرف اليوم بالقوة الكهرومغناطيسية. اكتشف ماكسويل بمعادلاته أن أي تغيير في الحقل الكهربائي يسفر عن تغيير في الحقل المغناطيسي، والعكس صحيح، وهذا ما يسمح للموجات الكهربائية بإنشاء موجات مغناطيسية قادرة على السفر في الفضاء.
حين حسب ماكسويل سرعة هذه الموجات الكهرومغناطيسية حصل على العدد نفسه الذي قاسه العلماء مسبقًا حول سرعة الضوء، ما يعني أن الضوء يتكون من موجات كهرومغناطيسية، أي أن الضوء يسافر مع الموجات الكهرومغناطيسية عبر الفضاء بالسرعة ذاتها.
جاء آينشتاين بعدها بعقود قليلة لينفي أي علاقة تربط سرعة الضوء بالضوء نفسه، وقد وجد صلةً حقيقةً بين الزمان والمكان يُعرف بنسيج الزمكان بواسطة نظريته النسبية الخاصة، لكن كما نعلم يختلف المكان كثيرًا عن الزمان، والمتر الواحد يختلف تمامًا عن الثانية الواحدة. إذن كيف أمكن جمعهما معًا؟
كان لا بد من وجود رابط يسمح لنا بالتحويل بين الحركة في المكان والحركة في الزمان، بعبارة أخرى، كان لا بد لنا من معرفة كم يساوي مثلاً مقدار متر واحد بالزمان، تمامًا كما هو عليه الأمر عند التحويل بين العملات فلا بد من وجود عملة تُعد معيارًا تستند إليه كل عمليات التحويل بين العملات، وهذا ما اكتشفه آينشتاين حين حصل على ثابت واحد -سرعة معينة- بمقدورنا الاعتماد عليه لمعرفة كم يساوي مقدار من المكان نظيره من الزمان، أو العكس.
لم تذكر نظريات آينشتاين ذلك العدد، لكن حين طُبِّقت النسبية الخاصة على معادلات ماكسويل وجد آينشتاين أن معامل التحويل هذا هو سرعة الضوء نفسها.
تُعتبر سرعة الضوء ثابتًا أساسيًا يُوحد الزمان والمكان، لكنه يبقى مجرد رقم حسبه واكتشفه ماكسويل مسبقًا من دون أن يعلم ماهيته، وذلك لأن كل الجسيمات عديمة الكتلة تستطيع السفر بهذه السرعة، وبما أن الضوء عديم الكتلة فيمكنه السفر بهذه السرعة أيضًا، ومن هنا أصبحت سرعة الضوء حجر الأساس في الفيزياء الحديثة.
لكن يبقى السؤال مطروحًا: لماذا ذلك العدد وليس غيره؟ لماذا اختارت الطبيعة ذلك العدد تحديدًا؟
فقدان المعنى
حسنًا، ذلك العدد لا يهم مادام يملك وحدات (أمتار في الثانية)، لذلك يجب علينا أن نحدد ماهية هذه الوحدات مسبقًا. مثلًا، لكي نحدد سرعة الضوء بالأمتار في الثانية، يجب علينا أولًا تحديد ماهية المتر والثانية، لذلك ترتبط سرعة الضوء بمفاهيم المسافة والوقت.
في الفيزياء، يزداد اهتمام العلماء بالثوابت التي ليس لها وحدات أو أبعاد، أي تلك الثوابت التي تظهر في النظريات الفيزيائية بهيئة أرقام بسيطة لا تعتمد على مفاهيم أخرى؛ لذلك تبدو أكثر أهمية، فلو التقينا بحضارات فضائية غريبة فلن نستطيع فهم قياساتهم لسرعة الضوء، لكن إذا تعلق الأمر بثوابت من دون أبعاد فسنتمكن من الاتفاق معهم. بالمختصر، إنها مجرد أرقام.
أحد هذه الأعداد هو ثابت البناء الدقيق، وهو مزيج بين سرعة الضوء وثابت بلانك، إضافةً إلى ما يسمى «سماحية الفراغ». هذا الثابت قيمته تقريبًا 0.007. لكن لماذا هذا العدد بالتحديد؟ كما قلنا سابقًا عن سرعة الضوء، إنه مجرد رقم.
تستطيع سرعة الضوء اتخاذ أي رقم لأن لها وحدات يجب علينا تعريفها وتحديدها، لكن من ناحية أخرى لا تستطيع سرعة الضوء أن تكون خلاف ما هي عليه الآن، لأنه بتغييرنا سرعة الضوء فإننا سنغير ثابت البناء الدقيق، لكن كلمة الفصل تعود أولًا وأخيرًا لهذا الكون الذي اختار أن تكون قيمة ثابت البناء الدقيق 0.007 وليس أي قيمة أخرى، ببساطة هذا هو الكون الذي نعيش فيه و هذه هي الثوابت المطلقة التي جاء بها، ولذلك جاءت سرعة الضوء كما هي بالضبط.
اقرأ أيضًا:
ما هي سرعة الضوء؟ وكيف نعرف قيمتها؟
النسبية الخاصة: نظرية أينشتاين حول النسبية الخاصة و سرعة الضوء
ترجمة: رضوان بوجريدة
تدقيق: راما الهريسي