أضافت أدلة جديدة عن زلازل قوية مرتبطة بثوران بركان فيزوف مزيدًا من التفاصيل إلى معرفتنا بالكيفية التي لقي بها العديد من الناس حتفهم في بومبي عام 79م. كان بليني الأصغر مراهقًا عندما شهد الدمار الهائل الذي سببه ثوران بركان فيزوف في بومبي -إيطاليا. وتوفي عمه جراء الانفجار التاريخي، وتُعد رسائل بليني إلى المؤرخ الروماني تاسيتوس، التي وصفت الحدث، هي روايات شاهد العيان الوحيد الباقية عن أحد أكبر الثورانات البركانية وأشدها فتكًا في العالم القديم.

حدثت معظم الوفيات المقدرة بـ 2000 حالة وفاة في بومبي في اليوم الثاني من الثوران، عندما انهار الجزء العلوي من فيزوف وفتكت الحمم البركانية المستعرة بالمدينة. أدى تدفق الحمم البركانية سريعة الحركة، المكونة من الصخور الساخنة والرماد، إلى مقتل كثير من الناس بحرارة وقوة كبيرتين. تبدو القوالب الجصية لضحايا بومباي كأنها حيّة لأن الضحايا قُتلوا ودُفنوا تقريبًا في الوقت ذاته.

من المحتمل أيضًا أن بعض الضحايا في بومبي لم يُقتلوا بسبب البركان ذاته، فحسب شهادة بليني كان ثوران فيزوف مصحوبًا بالزلازل، وتؤكد الأدلة الحديثة أن الزلازل القوية قد هزت بومبي بعد الانفجار.

تأكيد الزلازل التي أبلغ عنها بليني:

كان بليني على بعد 18 ميلًا من فيزوف، ووصف الزلازل العنيفة التي حدثت طوال الليل وضربت مرة أخرى في فجر اليوم التالي. كتب بليني: «أصبحت الزلازل شديدة في تلك الليلة لدرجة أن كل شيء لم يهتز فحسب بل انقلب، كانت الساعة الأولى من النهار وكان الضوء خافتًا وضعيفًا، أما المركبات التي أمرنا بإخراجها، فمع إنها كانت على أرض مستوية، راحت تهتز ذهابًا وإيابًا ولم تظل ثابتةً في أماكنها، حتى المثبتة منها بالحجارة».

لا يوجد دليل أثري واضح حتى الآن في بومبي على الوفيات الناجمة عن الزلازل بالذات، لأن الدمار الذي خلفه تدفق الحمم البركانية جعل من المستحيل تقريبًا التمييز بين الأضرار الزلزالية والبركانية.

مع ذلك، وجد فريق من العلماء في إيطاليا أدلة دامغة في بومبي على الوفيات الناجمة عن انهيار مبنى بسبب الزلزال، وليس بسبب الحرارة أو الاختناق. يؤكد الاكتشاف رواية بليني البالغ عمرها 2000 عام، بل قد يعيد كتابة قصة وفاة الكثير من الناس في بومبي.

مراحل الدمار الثلاث:

حتى هذا الاكتشاف، كانت الرواية الأثرية التقليدية لثوران بركان فيزوف القاتل أنه حدث على مرحلتين مميزتين.

اندلع انفجار هائل في فيزوف في الساعة الواحدة بعد ظهر اليوم الأول، وخرج منه سيل من الحمم البركانية امتد 20 ميل تقريبًا. سُمي هذا النوع من الثوران البركاني باسم ثوران «بليني»، نسبةً إلى وصف بليني الأصغر المفصل للحدث البركاني. أمطرت المواد على بومبي خلال المرحلة الأولى من الثوران على شكل خفاف لابيلي، وهي أحجار صغيرة خفيفة الوزن تشكلت من أجزاء من الحمم البركانية المنبعثة التي تبرد بسرعة في الهواء. يقول دومينيكو سباريس، عالم البراكين الإيطالي، المؤلف المشارك للبحث: «ليس الخفاف اللابيلي حارًا جدًا، لكنه أمطر المدينة مدة 18 ساعة متواصلة وتراكم بارتفاع ثلاثة أمتار. أدى ثقل رواسب الخفاف اللابيلي إلى انهيار الأسطح في بومبي، وتوفي العديد من الأشخاص نتيجة لذلك خلال المرحلة الأولى».

حظي الناجون من هذه الليلة براحة قصيرة قبل فجر اليوم التالي. إذ توقف تساقط أحجار الخفاف مدة نصف ساعة. ربما زحف بعض الناجون من المرحلة الأولى من نوافذهم في الطابق الثاني إلى الشوارع المغطاة بالصخور والرماد، وحاولوا الفرار من المدينة. واحتشد آخرون في منازلهم بانتظار إنقاذهم. يقول سباريس: «ربما اعتقدوا أن الأمر قد انتهى، لكن الأسوأ لم يأت بعد».

لم تتمثل المرحلة الثانية بوابل من الصخور خفيفة الوزن، بل بطوفان حارق يجري بسرعة قطار الشحن. لم يكن لدى مواطني بومبي أي فرصة للنجاة أمام تدفق الحمم البركانية سواءً أكانوا في الشارع أم في منازلهم.

يقول سباريس: «إنه مثل انهيار جليدي، لكنه من المواد البركانية الحارة، مزيج من الغاز والقطع البركانية تتحرك بسرعة ودرجة حرارة عاليتين».

مات مئات السكان في غضون 15 دقيقة بسبب الحرارة، والاختناق من استنشاق الرماد، والقوة العنيفة للانهيار، إذ تساقطت الجدران وانهارت المباني بفعل الحرارة.

لا ينكر الباحثون أن أكثر ضحايا بومبي ماتوا خلال مرحلة تدفق الحمم البركانية. لكن لديهم الآن أدلة تشير إلى مرحلة أخرى من الدمار. إذ ضرب زلزال قوي بلغت شدته 5.8 على مقياس ريختر.

انهيار الجدران:

وصف بليني الزلازل القوية التي ضربت طوال الليل وفي الساعات الأولى من اليوم التالي، لكن لم نكن قد وجدنا حتى الآن أي دليل من السجل الأثري على أن هذه الزلازل شكلت مرحلة ثالثة مميزة من الدمار في بومبي. هذا بالضبط ما يعتقد سباريس وفريقه أنهم قد وجدوه.

تتمثل الأدلة في جثتين من الرفات البشرية المكتشفة في أنقاض بومبي. عُثر على الهيكلين العظميين تحت جدار منزل منهار. يبدو أنهما لرجلين في العقد السادس من العمر، عانوا كسورًا شديدة متعددة في القفص الصدري والحوض والأطراف والجمجمة. لا تتوافق إصابات الرجلين مع الموت جراء الاختناق أو الحرارة وفقًا لعلماء الأنثروبولوجيا، لكن نتيجة صدمة قوية، يقول سباريس: «صدمة الضغط التي قتلت الرجلين مطابقة تقريبًا لصدمة الضحايا الذين عُثر عليهم في حطام الزلازل الحديثة».

تحطمت معظم الأبنية في بومبي بسبب القوة الهائلة لتدفق الحمم البركانية، لكن المنزل الذي توفي فيه الرجلان كان بعيدًا عن الأنماط التي حدث بسببها الدمار. يقول سباريس: «عندما تصطدم الحمم البركانية بالجدران، فإنها تدمرها تمامًا أو تؤدي إلى انقلابها، لكن لم يكن هذا هو الحال هنا».

بإعادة بناء المشهد، تبين أن الجدار الثقيل الذي قتل الرجلين قد انزاح أفقيًا أولًا بسبب النشاط الزلزالي العنيف، ثم انزلق فوق الضحايا وسحقهم. كان الجدار المنهار مغطى بطبقة من الخفاف اللابيلي، ما يدل أن الجدار سقط بينما كانت الصخور خفيفة الوزن ما زالت تتساقط.

يتماشى التوقيت المفترض لانهيار الجدار تمامًا مع وصف بليني لأسوأ اهتزاز في فجر اليوم الثاني. ضرب الزلزال في نهاية مرحلة الثوران الأولى، عندما كان الحطام الخفيف ما زال يتساقط. قبل تدفق الحمم البركانية بنحو نصف الساعة، ما يعني أن هذه الوفيات حدثت بسبب الزلزال، لا البركان. يقول سباريس: «للمرة الأولى نجد انهيار مبنى يمكن ربطه بثقة بالزلازل».

أدى هذا الاكتشاف إلى فرضية جديدة حول مصير 2000 من ضحايا بومبي. من المحتمل أن يكون عدد من الأشخاص قد نجوا من المرحلة «البلينية» الأولية، عندما تفجرت قمة فيزوف وأمطر الحطام على المدينة أدناه. لكن فرصهم في الهروب من المدينة قبل وصول الحمم البركانية المميتة تضاءلت جدًا بسبب زلزال كبير من المحتمل أنه أطاح بأعداد هائلة من المباني في جميع أنحاء بومبي.

اقرأ أيضًا:

أول دليل على وجود البشر في قنوات الحمم البركانية القديمة في السعودية

الكشف عن تاريخ بحيرة قديمة على سطح المريخ

ترجمة: أميمة الهلو

تدقيق: أكرم محيي الدين

مراجعة: هادية أحمد زكي

المصدر