للمرة الأولى : باحثون يرصدون ذرات فردية تبتعد عن بعضها و أخرى تشكل أزواجا
إذا عبّئنا غازًا في زجاجة، وحاولنا تصوير ذراته باستخدام أقوى المجاهر المستخدمة في يومنا هذا، سنرى القليلَ في سحابةٍ ضبابيةٍ. تكون الذرّات نشِطةً بسرعة قريبةٍ من سرعة الضوء، ومن الصعب أن توجد ثابتة في درجة حرارة الغرفة.
وإذا وُضعت هذه الذرّات، بطريقة ما، في درجات حرارة منخفضة جدًا، فإنّ حركتها تتباطئ، وسيكون بإمكان العلماء دراسة كيفيّة تشكيلها للحالات المختلفة للمادة، كالميوعة، والموصلات الفائقة، والمغناطيسية الكوانتية.
وَضعَ علماء الفيزياء في معهد ماستشوستس للتكنولوجيا، ذرات غاز البوتاسيوم في درجة حرارة منخفضة جدًا تقرب من عدّة نانوكالفن (أكبر بقليل من الصفر المطلق)، وحصروا الذّرات في شبكة بصرية ثنائية الأبعاد،أُنشئت بواسطة ليزرات متنقلة. التقط الباحثون صورًا للذّرات المبردة داخل الشبكة بواسطة مجهر فائق التصميم.
بالنّظر إلى الروابط بين الذّرات من خلال مئات الصور، رصد فريق الباحثين الذرات الفردية التي تفاعلت مع بعضها بطرقٍ غريبة، وذلك حسب موضعها في الشبكة، فبعض الذرات أظهرت سلوكًا غير اجتماعي، وبقيت متباعدة عن بعضها، بينما البعض الآخر منها ارتبطت بأخرى من خلال التوجهات المغناطيسية البديلة. كما أظهرت ذرات أخرى سلوكًا آخرًا بالاستناد على بعضها، مُشكّلة أزواجًا من الذّرات، بالقرب من ثقوب أو مساحات فارغة.
يعتقد فريق العلماء بأن هذه الارتباطات المكانيّة قد تسلط الضوء على أصل سلوك الموصلية الفائقة، فالموصلات الفائقة هي مواد ملحوظة تجتمع فيها الإلكترونات وتُشكّل أزواجًا، وتنتقل دون احتكاك، أي أنه لا يحدث أي ضياع للطاقة أثناء رحلتها. وإذا استطاع العلماء تصميم الموصلات الفائقة بحيث تتواجد في درجة حرارة الغرفة، فبإمكانهم التمهيد لعصر فعّال جديد كليًا، ومذهل بالنسبة لجميع التقنيات المُعتمِدة على الطاقة الكهربائية.
يقول مارتين زويرلين (Martin Zwierlein) أستاذ الفيزياء والباحث المسؤول في مركز ((NSF (المؤسسة العلمية الوطنية) في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، أنّ نتائج فريقه قد تساعد العلماء على تحديد الظروف المثالية لإنتاج الموصليّة الفائقة.
وأضاف زويرلين: «بالتعلم من هذا النموذج الذّري، باستطاعتنا فهم ما الذي يحدث في الموصلات الفائقة، وما باستطاعتنا فعله لتصنيع موصلات فائقة في درجات حرارة عالية، وذلك بهدف الاقتراب من درجة حرارة الغرفة».
نُشِرَت نتائج فريق البحث في السادس عشر من أيلول سبتمبر لعام 2016 في مجلة العلوم (SCIENCE). وشارك في البحث باحثون من مركز (HARVARD-MIT) للذرات المبردة، ومختبر أبحاث الإلكترونيات في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ومجموعتين من العلماء النظريين من جامعة سان خوسيه، وجامعة أوهايو، وجامعة ريو دي جانيرو، وجامعة بنسلفانيا.
ذرات عوضًا عن الكترونات:
في الوقت الحالي، من المستحيل نمذجة سلوك الموصلات الفائقة ذو درجات الحرارة العالية، حتى باستخدام أقوى الحواسيب في العالم، كون التفاعل بين الإلكترونات قوي جدًا. عوضًا عن ذلك صمم زويرلين وفريقه محاكاةً كموميةً باستخدام الذّرات بدلاً من الإلكترونات في الأجسام فائقة الموصليّة.
استند الباحثون في طرح أفكارهم على عدة فرضيات منطقية تاريخية، منها: أولاً، في العام 1925 طرح عالم الفيزياء النمساوي فولفغانغ باولي مبدأ الاستبعاد الذي ينص على أنّه لا يمكن لإكترونين أن يشغلا نفس الحالة الكوانتية (كالدوران أو الموضع) في الوقت ذاته. كما افترض باولي بأن الإلكترون يحافظ على مجال معين خاص به، والذي يعرف بثقب باولي.
اتضح أنّ نظرية باولي تُفسّر الجدول الدوري للعناصر، فالترتيب المختلف للإلكترونات أدّى إلى تخصيص العناصر، وجعل ذرات الكربون على سبيل المثال مختلفة عن ذرات الهيدروجين.
أدرك عالم الفيزياء الإيطالي إنريكو فيرمي (Enrico Fermi) إمكانية تطبيق المبدأ نفسه، ليس على الإلكترونات فحسب، بل على الذّرات في الحالة الغازية. فيمكن تحديد خصائص العناصر بمعرفة المساحة التي تبقيها الذرات لنفسها، كالضغط في الغاز.
أضاف زويرلين: «كما أدرك فيرمي بأن تلك الغازات في درجات الحرارة المنخفضة تسلك طرقًا غريبة».
وظّف عالم الفيزياء البريطاني جون هابرد مبدأ باولي للاستبعاد في نظريته، التي تعرف حاليًا بنموذج فيرمي-هابرد، وهو النموذج الأبسط لتفاعل الذرات المتنقلة داخل الشبكة. في الوقت الحالي، يُفسِّر هذا النموذج أساسيات الموصلية الفائقة. وبينما كان العلماء قادرين على استخدام هذا النموذج لمعرفة سلوك إلكترونات الموصلية الفائقة، إلا إن قدرتهم اقتصرت على استخدامها في الحالات التي تكون فيها التفاعلات بين الإلكترونات ضعيفة.
ويقول زويرلين: «إنّ السبب الأهم في عدم فهمنا للموصلات الفائقة في درجات الحرارة العالية هو تفاعل الإلكترونات بقوة كبيرة»، وأضاف: «لا يوجد حاسوب عادي في العالم باستطاعته حساب مايمكن حدوثه للتفاعلات بين الإلكترونات في درجات الحرارة المنخفضة جدًا. حيث لم تُرصد ارتباطاتها المكانية من قبل، لأنه لا أحد يملك مجهر باستطاعته مراقبة الإلكترونات الفردية».
إنشاء المسافة الخاصة:
حاولَ فريقُ زويرلين تصميم تجربةٍ لفهمِ نموذجِ فيرمي-هابرد بالنسبة للذرات، بأمل رصد سلوك الذرات المبردة المماثلة للإلكترونات في الموصلات الفائقة في درجات الحرارة العالية.
صمم الفريق مسبقًا نظامًا تجريبيًا لتبريد غازٍ يتكون من الذرات للمرة الأولى إلى درجة حرارة قريبة جدًا من الصفر المطلق، ثم تم حصر الذرات في شبكة ثنائية البعد تم توليدها بواسطة ليزر. في مثل هذه الدرجات المنخفضة تصبح حركة الذرات بطيئة وهو ما سمح للباحثين بالتقاط صور لها للمرة الأولى، وذلك أثناء تفاعلها عبر الشبكة.
على حواف الشبكة، حيث كان الغاز أكثر لزوجةً، رصد العلماء الذرات وهي تشكل ثقوب باولي، كما حافظت على مساحة معيّنة لها داخل الشبكة.
يقول زويرلين: «تنحت الذرات مساحة صغيرة لنفسها، ومن غير الشائع أن نجد ذرة داخل مساحة ذرة أخرى».
ويضيف زويرلين: «في الوقت نفسه، غالبًا ما تقفز هذه الذرات فوق بعضها البعض، مشكلة أزواجًا من الذرات، كل زوج يتواجد بالقرب من مربع فارغ في الشبكة، وهذا تذكير بالمقترح الميكانيكي للموصلية الفائقة في درجات الحرارة العالية، والتي بداخلها، تُصدر الإلكترونات صدى بين المواقع المتجاورة في الشبكة، حيث تستطيع الإلكترونات العبور داخل المادة دون احتكاك، في حال وجود الكمية الكافية من المساحة الفارغة».
وأضاف: «في النهاية، باستطاعة تجارب فريق العمل على الغازات مساعدة العلماء في تحديد الظروف المثالية لظهورالموصلية الفائقة في الأجسام الصلب».
ويشرح زويرلين: «بالنسبة لنا، هذه الآثار تحدث في درجات الحرارة من رتبة النانوكالفن، وذلك لأننا نعمل على غازات ذرية لزجة. وإذا كان لديك قطعة من المادة فهذه الآثار يمكن حدوثها في درجة حرارة الغرفة».
حاليًا، فريقُ العمل قادرٌ على تحقيق درجات حرارة باردة في الغازات التي تساوي درجة حرارتها في الأجسام الصلبة مئات من الكالفن. ويقول زويرلين: «لإنتاج الموصلية الفائقة على الفريق تبريد الغازات بواسطة عوامل أخرى».
ويقول: «لم نستنفذ كل حيلنا وطرقنا بعد، ونعتقد بأننا سنُبرّد تلك الغازات أكثر».
ترجمة: مامند عبدالله
تدقيق: فادي فنّون
المصدر