يتمثل التحدي الأكبر في تطوير لقاح الإيدز في أن فيروس العوز المناعي المكتسب (HIV) يتحور بسرعة كبيرة للغاية؛ ففي حين أن المرء يصاب في بادئ الأمر بسلالة واحدة أو بضعة سلالات من الفيروس، فإنه يتضاعف ويتحور بسرعة، ما يؤدي إلى حشد من السلالات الفيروسية المختلفة في الجسم ذاته.
أجرت عدة معاهد عالمية مجموعةً من التجارب قبل السريرية التي أظهرت أن الباحثين أقرب إلى تطوير لقاح الإيدز من أي وقت مضى، ويعمل اللقاح الجديد عبر إنتاج أجسام مضادة نادرة قد تكون فعالة ضد نطاق واسع من سلالات فيروس العوز المناعي البشري.
استندت التجارب المعنية إلى المرحلة الأولى في تجربة سريرية أخرى أجرتها مبادرة لقاح الإيدز الدولية في عام 2022، وقد لُخصت نتائجها في أربعة بحوث مستقلة، وهي تمثل خطوةً كبيرة نحو تطوير استراتيجية تلقيح فعالة للحماية من فيروس العوز المناعي.
يقول الباحث الرئيسي في البحوث الأربعة والأستاذ في مؤسسة سكريبس للأبحاث ويليام شيف: «تبين هذه البحوث عمومًا إمكانية تطوير لقاح فعال ضد فيروس العوز المناعي البشري، علينا فقط أن نبني على هذه النتائج في التجارب السريرية المستقبلية والمحاولة مرارًا وتكرارًا».
يهدف لقاح الإيدز إلى تحفيز الجسم على إنتاج أجسام مضادة معدلة على نطاق واسع (bnAbs)، التي تعد من العوامل المناعية الرئيسية في مكافحة فيروس العوز المناعي البشري بما أنها قادرة على استهداف سلالات عديدة من الفيروس، لكن المشكلة أن إنتاجها نادر في جسم الإنسان.
تمحورت التجربة التي أجرتها مبادرة لقاح الإيدز الدولية حول تحفيز الخلايا اللمفاوية البائية التي تستطيع تطوير أجسام مضادة معدلة قادرة على حماية خلايا الإنسان من عدة سلالات لفيروس العوز المناعي.
استعان الباحثون بمستمنع تمهيدي لتحفيز الخلايا المناعية، وهو عبارة عن جزيء مخصص لتدريب الجهاز المناعي وحث الخلايا المناعية الملائمة على الاستجابة.
تبين أن المستمنع التمهيدي يتطلب جرعات إضافية معززة لدفع الجهاز المناعي إلى إنتاج أجسام مضادة معدلة على نطاق واسع من الفئة VRC01، التي تعد بدورها فئة تخصصية ونادرة من الأجسام المضادة، وهي معروفة بقدرتها على استهداف سلالات متنوعة من فيروس العوز المناعي بنسبة أكثر من 90%.
تلك الجرعات المعززة ضرورية أيضًا لإنتاج فئة أخرى من الأجسام المضادة المعدلة ذات النطاق الواسع تسمى BG18 ترتبط بدورها مع سكريات البروتين الشوكي على سطح فيروس العوز المناعي البشري، وهذا ما عملت عليه الدراسات الجديدة؛ إذ طوّر الباحثون أنظمة تلقيح لتدريب الخلايا المناعية التي تنتج أجسام مضادة من الفئة VRC01 أو BG18، وتعزيزها بعدئذ لإنتاج الأجسام المضادة المعدلة على النطاق الواسع (bnAbs).
يقول رئيس مبادرة لقاح الإيدز الدولية ومديرها التنفيذي مارك فاينبيرغ: «إن النتائج التي نُشرت في هذه البحوث مشوقة حقًا، وهي تدعم استراتيجية استهداف سلالات الخلايا المناعية في لقاح الإيدز التي تسعى إليها مبادرتنا بالتعاون مع شركائنا. نتطلع إلى مواصلة تعاوننا مع مؤسسة سكريبس للأبحاث وشركائنا الآخرين لإجراء المزيد من البحوث المبنية على هذه النتائج الواعدة».
إعداد أجسام مضادة نادرة:
استعان الباحثون في الدراسة الأولى بمستمنع لتحفيز خلايا مناعية استثنائية على إنتاج الأجسام المضادة من الفئة BG18 لدى حيوانات نموذجية غير معدلة جينيًا.
استخدم الفريق بعد ذلك تحاليل بنائية من مجهر إلكتروني مبرد للتأكد من أنهم استطاعوا استهداف الخلايا الصحيحة، وبالفعل تبين أن الأجسام المضادة الناتجة كانت من ضمن الفئة BG18.
يقول جون ستايشن، أحد الباحثين المشاركين في الدراسة من قسم علم المناعة والأحياء الدقيقة في مؤسسة سكريبس للأبحاث: «بعد نجاح استراتيجية تدريب الخلايا المناعية لدى قردة المكاك، يوجد احتمال كبير أن تنجح لدى البشر أيضًا».
ساهم ستايشن أيضًا في الدراسة الثانية التي استُخدمت فيها استراتيجيات شبيهة بالوسائل المستخدمة لتدريب الخلايا المناعية في الدراسة الأولى. الاختلاف الرئيسي في هذه الدراسة أنهم استخدموا واحدةً من مادتين مستمنعتين مختلفتين باستخدام تقنية الحمض النووي الريبوزي (RNA)، ما أدى إلى تعزيز الخلايا البائية المدربة لتتكيف على رصد السلالات الطبيعية لفيروس العوز المناعي المكتسب.
يقول ستايشن: «أظهرت هذه الدراسة أننا نستطيع تدريب الخلايا اللمفاوية البائية لإنتاج الأجسام المضادة المعدلة على نطاق واسع».
دفع الجهاز المناعي إلى الاستجابة:
عمل الباحثون في الدراسة الثالثة على تدريب الخلايا المناعية لدى مجموعة فئران باستخدام المستمنع ذاته المستخدم في التجربة السريرية التي أجرتها مبادرة لقاح الإيدز الدولية في عام 2022، وكانت النتيجة أن الفئران طوّرت خلايا لمفاوية بائية قادرة على إنتاج أجسام مضادة من الفئة VRC01 وتشابه نظيرتها لدى البشر.
فضلًا عن ذلك، صمم الباحثون أيضًا مستمنعًا معززًا جديدًا لتحفيز الأجسام المضادة الناتجة على أن تصبح ناضجة، ما يمثل الخطوة الضرورية التالية في سلسلة اللقاحات التي قد تكون فعالة في مكافحة فيروس العوز المناعي المكتسب. توصل الفريق في نهاية المطاف إلى استراتيجية لتدريب الخلايا المناعية ثم تعزيزها، ما يتيح لهم تحفيز الخلايا البائية التي تنتج الأجسام المضادة من الفئة VRC01 على تطوير الأجسام المضادة المعدلة على نطاق واسع (bnAb).
يقول كريستوفر كوتريل، أحد العلماء المشاركين من مؤسسة سكريبس للأبحاث: «تبين هذه النتائج إمكانية إرشاد استجابة الأجسام المضادة نحو الاتجاه الصحيح باستخدام تلك الجرعة المعززة التي تستخدم نسخةً مختلفة من اللقاح».
علم المناعة وراء لقاح الإيدز:
استخدم الباحثون في الدراسة الرابعة والأخيرة المواد المستمنعة ذاتها ولكن مع مجموعة مختلفة من الفئران، واستطاع الفريق في هذه الدراسة التحكم في وتيرة تطور خلايا الأجسام المضادة المعدلة على نطاق واسع لتصبح مشابهة لوتيرة تطورها لدى البشر، ما أتاح لهم التعمق في الاستجابات المناعية المتعلقة بلقاح الإيدز بدراسة المراكز الجرثومية، وهي تركيبات دقيقة متخصصة تحمي الجسم من عودة العدوى الفيروسية.
تفسح المراكز الجرثومية المجال للخلايا اللمفاوية البائية حتى تتكاثر بسرعة وتحوّر جينات الأجسام المضادة داخلها، ما يساعد الجهاز المناعي في نهاية المطاف على مكافحة السلالات الفيروسية.
علاوةً على ذلك، استقصى الباحثون أيضًا كيفية تراكم طفرات فيروس العوز المناعي المكتسب في المراكز الجرثومية مع مرور الوقت، واكتشفوا أن نظام تدريب الخلايا المناعية ثم تعزيزها يزيد نشاط الخلايا البائية غير المدربة في المراكز الجرثومية بمختلف سلالاتها، ما قد يؤدي إلى زيادة نضوج الأجسام المضادة المعدلة على نطاق واسع من الفئة VRC01.
الخطة القادمة:
تؤكد الدراسات الأربعة عمومًا إمكانية تحفيز الخلايا البائية الصحيحة على إنتاج الأجسام المضادة المعدلة على نطاق واسع عند تطوير لقاح ضد فيروس العوز المناعي المكتسب، وأظهرت ثلاث دراسات منها إمكانية إرشاد الخلايا البائية غير المدربة حتى تنتج أجسام مضادة قادرة على محاربة الفيروس.
يقول شيف: «خلاصة القول إن هذه النتائج تشعرنا بالمزيد من الثقة في قدرتنا على تدريب الخلايا المناعية لأنواع مختلفة من الأجسام المضادة المعدلة على نطاق واسع، وهي تظهر أيضًا أننا بدأنا بفهم كيفية تطوير الخلايا غير المدربة باستخدام مواد مستمنعة معززة ولكن مختلفة عن تلك المستخدمة في تدريب الخلايا».
يعمل الباحثون الآن على اتباع هذه النتائج في التقدم بالمرحلة الأولى من التجارب الطبية لكل من المخطط VRC01 وBG18، وتخضع اللقاحات المخصصة لإنتاج الأجسام المضادة من الفئة VRC01 للمزيد من الدراسة في تجربتين سريريتين بإدراة مبادرة لقاح الإيدز الدولية، في حين بدأت تجربة سريرية أخرى على اللقاحات التي تهدف إلى إنتاج الأجسام المضادة من الفئة BG18، وتستخدم هذه التجارب لقاحات بروتينية مزودة بعوامل مساعدة إلى جانب تقنية إيصال اللقاح بالحمض النووي الريبي.
سيقرر الباحثون الخطوة التالية نحو اكتشاف سبيل لتطوير لقاح ضد الإيدز بناءً على نتائج الدراسات الحالية.
اقرأ أيضًا:
كيف يتمكن لقاح الرنا المرسال ولقاح الدنا من معالجة السرطان والإيدز؟
حالة طبية نادرة للغاية: امرأة مصابة بفيروس الإيدز تُشفى تمامًا دون علاج
ترجمة: رحاب القاضي
تدقيق: لين الشيخ عبيد