يُروى في إنجيل «متى» أنّ ثلاثة رجال حكماء من المجوس تتبعوا مسار نجمٍ غامض قادهم في آخر المطاف إلى المكان الذي وُلد فيه المسيح؛ بيت لحم منذ نحو 2000 عام. وبعد التشاور مع ملك يهودا «هيرودس»، عثر الرجال على طفلٍ حديث الولادة في بلدة بيت لحم الصغيرة اسمه «يسوع». من الصعب إثبات صحة هذا الحدث، ولكن بافتراض أنه وقع، كيف يُمكن تفسير طبيعة هذا النجم الغامض الذي ظهر وقت ميلاد المسيح ؟
هذا السؤال لطالما أثار فضول العلماء، ليس من منظور ديني أو تاريخي فحسب، ولكن من منظور علمي أيضًا، إذ اقتُرحت الكثير من الفرضيات لتفسير نجمة بيت لحم. ولكن بفضل علم الفلك الحديث، يقترب العلماء أكثر من تقديم إجابة موضوعية.
قال ديفيد وينتراوب، أستاذ الفيزياء وعلم الفلك في جامعة فاندربيلت بولاية تينيسي: «إذا كان ما في العهد الجديد هو سرد تاريخي لشيء ما، فإن هذا السرد التاريخي يتطلب تفسيرًا… بصفتك عالم فلك، فأنت تريد تفسيرًا فلكيًا».
لم تكن نجمة بيت لحم مذنبًا أو مستعرًا أعظم
نحن نعلم أن مذنب «هالي» كان من الممكن رؤيته في السماء عام 11 قبل الميلاد. ومع ذلك، يبدو من غير المحتمل أن يتتبع المجوس مذنبًا ويقودهم تحديدًا إلى بيت لحم لأن موقعه كان سيتغير مع دوران الأرض، ومن ثم يستحيل أن يقودهم في اتجاه واحد. علاوة على ذلك، كان يُنظر إلى المذنبات قديمًا على أنها نذير شؤم.
يقول «جرانت ماثيوز»، أستاذ الفيزياء الفلكية النظرية وعلم الكونيات بجامعة نوتردام في ولاية إنديانا: «تحتوي بطاقات عيد الميلاد على صورة جميلة بها مذنب وذيل، ولكن في تلك الأيام، كان يُنظر عادةً إلى المذنبات في السماء على أنها نذير لكارثة وشيكة».
يمكننا أيضًا استبعاد تفسير تلك النجمة بالمستعرات والمستعرات العظمى، لأن هذين الحدثين كانا سيُنتجان بقايا يُمكن اكتشافها، لكن علماء الفلك لم يعثروا على أي شيء قد يعود تاريخه إلى ذاك الوقت.
إضافةً إلى ذلك، لو تتبّع المجوس تلك النجمة فعلًا، فمن المحتمل أنهم ساروا في دائرة. يقول وينتراوب: «لا يمكنك متابعة نجم من بغداد إلى القدس إلى بيت لحم… فالنجوم لا تفعل ذلك. إنها تشرق وتغرب ولا تجلس في السماء».
من المؤكد أن مثل هذا الحدث كان سيشاهده الآخرون في ذلك الوقت أيضًا. مع أن المستعرات نادرة جدًا، نتوقع العثور على روايات تاريخية أخرى لحدث جلل ومشرق في السماء.
تشير فرضيات أخرى إلى أن السبب وراء ذلك هو انفجار مستعر أعظم في مجرة المرأة المسلسلة (Andromeda galaxy)، كما وُضِّح في دراسة نُشرت عام 2005 في مجلة المرصد (The Observatory). ورغم ك إمكانية رؤية تلك المجرة بالعين المجردة، يتعذّر رؤية نجمٍ يمر بمستعر أعظم وينفجر داخله حتى بمساعدة التلسكوب.
قد تكون تلك “النجمة” سحابة من النجوم
هذا يقودنا إلى أحد الاحتمالين: الأول هو أن المجوس كانوا يحاولون تقديم تفسيرٍ مبني على التنجيم للسماء، لهذا احتاجوا إلى سؤال هيرودس عن الاتجاهات عند وصولهم إلى القدس، ما يُشير إلى أن ذلك النجم الساطع لم يكن هو البوصلة ولا بيت لحم هي وجهتهم النهائية.
كان التنجيم مستخدمًا على نطاق واسع بالتزامن مع قدوم المجوس من «بابل»، لذا فمن من المعقول أنهم كانوا مُنجّمين. واعتاد القدامى على استنتاج معانٍ خفيّة قائمة على محاذاة نسبية للكواكب والنجوم، وهذا ربما ما قاد أولئك المجوس الثلاثة إلى الملك هيرودس. على سبيل المثال، انطوى كوكب المشتري على أهمية كبيرة في التنجيم، إذ اقتُرِن بالملوك، لذا فإن مرور القمر بالمشتري في كوكبة الحمل في السابع عشر من أبريل من العام السادس قبل الميلاد قد يكون حدثًا فلكيًا تزامن مع ميلاد المسيح.
قال وينتراوب: «لا يُعير علماء الفلك المعاصرون أي مصداقية للتنجيم، لكن ما هو مهم في هذا السياق هو ما اعتقده الناس قبل 2000 عام، إذ كان التنجيم مهمًا في ذلك الوقت. التفسير الذي وجدته أكثر منطقية هو أن ذلك الحدث الغامض كان فلكيًا».
قد تكون تلك “النجمة” مجرد اقتران للنجوم والكواكب
يذكر تفسير فلكي آخر أن ذلك الذي رآه المجوس كان بالفعل جسمًا لامعًا في السماء على شكل تجمّع من الكواكب والنجوم، ويحدث هذا التجمع أو الاقتران عندما يبدو أن جسمين سماويين أو أكثر التقيا في سماء الليل من موقعنا على الأرض. يمكن أن تستمر هذه الأحداث كل ليلة في نفس المكان أيامًا أو أسابيع. لذلك إذا حصل فعلًا وتتبّع أولئك المجوس لحظة الاقتران، فمن المحتمل أنهم ساروا في اتجاه معين.
اقترح عالم الفلك مايكل مولنار في كتابه «نجمة بيت لحم» أن فرضية الاقتران قد تكون صحيحة. إذا كانت تلك النجمة، أو ذلك البريق اللامع الذي رآه المجوس، حدث نتيجة اقتران (وأنّ هذا الحدث التاريخي وقع بالفعل)، فهناك عدة حالات مختلفة من اصطفاف أو اقتران النجوم والكواكب يُرجح أنها السبب.
لعل أبرزها بالنسبة لماثيوز هي اصطفاف كوكب المشتري وزحل والقمر والشمس في كوكبة «برج الحمل» في السابع عشر من أبريل، العام السادس قبل الميلاد. ويتناسب هذا الاصطفاف مع القصة في الإنجيل لعدة أسباب.
أولاً، حدث هذا الاقتران في ساعات الصباح الباكر، وهذا يتوافق مع وصف الإنجيل لنجمة بيت لحم على أنها نجمة الصباح الصاعدة. وافتقد المجوس ضوء النجم، قبل رؤيته مجددًا يستقر في المكان الذي كان يرقد فيه الطفل يسوع في الإسطبل. قد يكون هذا نتيجة للحركة العكسية للمشتري، ما يعني أن المشتري يبدو وكأنه يغير اتجاهه في سماء الليل حيث يدور حوله مدار الأرض.
قال ماثيوز: «تتحرك الكواكب عادة شرقًا إذا تتبّعنا مسارها في السماء…ولكن عندما تسير غربًا، فإنها تتحرك في الاتجاه الذي ترتفع منه النجوم وتغيب ليلًا».
هناك اقترانان آخران حصلا في ذلك الوقت أيضًا: الأول هو لقاء كوكب المشتري والزهرة والنجم «Regulus» في كوكبة الأسد في 17 يونيو، العام الثاني قبل الميلاد. سيظهر الكوكبان للعين المجردة على أنهما “نجم” واحد، أكثر إشراقًا من كوكب الزهرة والمشتري كل منهما على حدة. أما الاقتران الثاني فحصل في العام السادس قبل الميلاد، بين كوكب المشتري وزحل والمريخ في كوكبة الحوت. لكن الاقتران الذي حدث في 17 أبريل العام السادس قبل الميلاد أكثر تطابقًا مع الوصف الوارد في العهد الجديد من هذين الاقترانين الأخيرين.
ويستمر اللغز
مع أن العلماء استبعدوا العديد من الاحتمالات، لا نعرف على وجه اليقين طبيعة نجمة بيت لحم أو صحة وقوع الحدث رغم وجود بعض الاكتشافات الأثرية الرائعة. ويبقى سؤالًا يطرح نفسه عامًا بعد عام، وسيستمر في إثارة اهتمام العلماء والمؤرخين على حد سواء لسنوات عديدة قادمة.
قال ماثيوز: «لا تُوجد في العلم ولا في التاريخ مسألة أُغلقت نهائيًا… ربما لا نعرف أبدًا أكانت نجمة بيت لحم اقترانًا فلكيًا أو مفهومًا مستمدًا من التنجيم أو خرافة مسيحية؟ ربما كانت معجزة بكل بساطة!».
اقرأ أيضًا:
ما هي كوكبة النجوم (البرج الفلكيّ)؟
ترجمة: رضوان بوجريدة
تدقيق: رزان حميدة