تميزت نهاية العصر الجليدي الأخير منذ قرابة 12000 عامًا بمرحلة باردة أخيرة، سُميت بالعصر الجليدي الأصغر. كان الجزء الأكبر من اسكندنافيا آنذاك مغطى بالثلوج، وفاقت الأنهار الجليدية في جبال أوروبا ما عليه اليوم من الحجم والعدد. كان هناك حقل جليدي ضخم غرب اسكتلندا، ووُجدت الأنهار الجليدية على جبال كثيرة عبر الجزر البريطانية.
من البديهي أن المناخ كان أكثر برودة مما عليه الآن، خاصة في الشتاء، إذ كانت درجات الحرارة تصل إلى ما دون 30 درجة مئوية تحت الصفر.
مع أن الشتاء متجمد، يشير الاختلاف في مدار الأرض حول الشمس إلى أن الصيف كان دافئًا نسبيًا، إذ بلغ متوسط درجات الحرارة بين 7 و10 درجات مئوية عبر المملكة المتحدة وأيرلندا.
في الوقت الحالي، يسهم التيار النفاث على الجبهة القطبية -حزام سريع الحركة من الرياح في العروض المرتفعة- بدور أساسي في الطقس في أوروبا، إذ يتسبب في تساقط الأمطار والثلوج من المحيط الأطلسي عبر القارة.
ولكن قبل بداية تدوين السجلات المناخية، كان فهم توقيت هطول الأمطار وكميتها ونمطها غير مكتمل.
في دراسة جديدة، استُخدمت الأنهار الجليدية التي كانت موجودة خلال العصر الجليدي الأصغر لمعرفة أنماط الهطول ومسار التيار النفاث عبر أوروبا خلال تلك الفترة.
توصل العلماء إلى وجود الأنهار الجليدية منذ 12000 عامًا، بفضل تضاريس جليدية تُعرف بالركام الجليدي، وُجدت في 122 موقعًا من المغرب جنوبًا إلى النرويج شمالًا، ومن أيرلندا غربًا إلى تركيا شرقًا.
أُعيد إنشاء الشكل ثلاثي الأبعاد لتلك الأنهار الجليدية اعتمادًا على معرفة الطريقة التي يتدفق بها الجليد في الأرض.
بواسطة طبقات الجليد المعاد إنشائها، أمكن التوصل إلى نقطة مهمة لكل نهر جليدي، وهي دائرة العرض التي تمثل خط الاتزان المرتبط بالمناخ عبر الهطول السنوي ومتوسط درجة الحرارة في الصيف. يمثل هذا الخط دائرة العرض إذ يتساوى تراكم الجليد مع ذوبان الجليد في نهاية شهر سبتمبر، ويُرى أنه خط الثلج الدائم.
تقدم النتائج خريطة الهطول الذي تحكم فيه التيار النفاث عبر أوروبا منذ قرابة 12000 عامًا.
طقس التيار النفاث
أظهرت النتائج أن المملكة المتحدة وأيرلندا وإسبانيا والبرتغال كانت أكثر تعرضًا للأمطار من الوقت الحالي، إضافةً إلى حوض البحر المتوسط، وخاصةً الجزء الشرقي حيث البلقان واليونان وتركيا.
بينما انخفضت الأمطار عبر فرنسا وبلجيكا وهولندا وألمانيا، باتجاه شرق أوروبا. ساعدت تلك المناطق المتباينة في هطول الأمطار على تحديد موقع التيار النفاث.
يظن العلماء أن التيار النفاث قد مر عبر المناطق الأكثر رطوبة جالبًا معه العواصف المعروفة بمنخفضات العروض الوسطى. تكثر تلك العواصف عبر المملكة المتحدة –خاصةً اسكتلندا– وربما نشأ عنها عواصف أصغر وأكثر حدة.
استنادًا إلى مسار التيار النفاث، يُعتقد أن الخريف والربيع كانا الأكثر رطوبة بينما كان الشتاء أكثر جفافًا.
عبر البرتغال وإسبانيا وحوض البحر المتوسط، كانت شهور الشتاء الأكثر رطوبة، بينما كان الخريف والربيع أكثر جفافًا.
تلك هي المرة الأولى التي تتكون فيها فكرة عن أنماط الطقس الموسمية عبر أوروبا خلال العصر الجليدي الأصغر ، بينما تندر المعرفة بخصوص المناخ في الفترة التي تسبق تسجيل أرصاد المناخ.
عادةً تكشف فقط نماذج المناخ الرقمية تلك الوجهة على النطاق الإقليمي في الماضي فيما يخص دوران الغلاف الجوي ومسارات العواصف وهطول الأمطار.
تخطط نماذج المناخ الرقمية المناخ والطقس عبر تقسيم الغلاف الجوي وسطح الأرض والمحيط إلى عدة خلايا مترابطة، رأسيًا وأفقيًا، في شبكة ثلاثية الأبعاد، وتحل المعادلات الرياضية المعقدة لتحديد كمية الطاقة والمادة المتحركة عبر النظام.
تغيير التيار النفاث
في الدراسة المذكورة، أمكن الوصول إلى تمثيل الأمطار التي تسببت فيها الأنهار الجليدية منذ 12000 عامًا بواسطة مخرجات المحاكاة الحاسوبية لعلم المناخ القديم.
تُعد النماذج المناخية الرقمية معقدة للغاية، ومع ذلك تظل تبسيطًا للواقع، لذا تولد النماذج المختلفة مخرجات يتفق بعضها معًا ويختلف البعض الآخر.
يتفق النمط العام للهطول الذي استنتجته دراسة الأنهار الجليدية في المناخ القديم مع بعض الأجزاء من مخرجات النموذج المناخي، بينما يختلف مع البعض الآخر. على سبيل المثال، لم يعتبر أي من النماذج المناخية المملكة المتحدة وأيرلندا والبرتغال وإسبانيا وحوض البحر المتوسط أكثر رطوبة في الماضي.
نحن نرى بالفعل إشارات على تغير التيار النفاث مع زيادة الاحترار في المناخ، ويُعتقد أنه سوف يتحرك شمالًا ويصبح أكثر تموجًا.
قد تؤدي تلك التموجات إلى أحداث أكثر تطرفًا، مثل الموجات الحارة في الصيف ومزيدٍ من العواصف والفيضانات في الشتاء.
لنفهم كيف سيتغير المناخ في المستقبل، نعتمد على النماذج الحاسوبية، ولكن تلك النماذج لم تتفق بعد على ما حدث في الماضي أو ما سوف يحدث في المستقبل.
ليصبح التنبؤ بالمناخ استنادًا على الاحترار المناخي الحالي أكثر دقة، يمكن استخدام مجموعات البيانات الخاصة بالمناخ القديم، مثل الهطول بفعل الأنهار الجليدية، الذي توصلت إليه الدراسة.
حين تصبح النماذج المناخية أكثر دقة في إعادة إنشاء أنماط الهطول في المناخ القديم، وخاصة في الفترات التي تحرك فيها التيار النفاث، تزداد ثقتنا في قدرتها على التنبؤ بالمناخ في المستقبل.
اقرأ أيضًا:
كيف نعرف ما كان عليه المناخ قديمًا ؟
التغير المناخي دفع إنسان النياندرتال إلى أكل لحوم البشر
ترجمة: شريف فضل
تدقيق: محمد أبو دف