مضت خمس سنوات على حالة الإغلاق التي جاءتنا بها جائحة كورونا وغيرت المفهوم التقليدي لعمل الشركات الذي يكون عادةً في مكتب الشركة، واستبدلت به مفهوم العمل من بُعد الذي لقي رواجًا بسبب ملاءمته لمتطلبات ذلك الوضع الاستثنائي، حتى بدا أن فيروس كوفيد 19 قد قضى نهائيًا على ما يسمى بالعمل في المكتب. أما الآن، تعود الشركات بعملية معاكسة وبأعداد كبيرة إلى العمل في المكاتب. ويمكن الحديث عن ظهور توجه جديد بين الشركات يمكن تسميته العودة إلى المكتب، تحث فيه الشركات موظفيها على العمل في مكاتب الشركة في كل الأوقات عوضًا عن العمل من بُعد، ويُعتقد أن هذا التوجه يقود إلى خلق بيئة عمل جذابة ومريحة.

العودة إلى الميدان:

أجرت مجموعة من الباحثين دراسة على شركة أمريكية تمتلك فروعًا في أنحاء البلاد كافة، شملت الدراسة ثلاث فترات: ما قبل الوباء، وخلال حالة الإغلاق، وفي أثناء العودة إلى توجه العمل الميداني في المكتب. استمرت الدراسة أكثر من عامين واعتمدت على الملاحظات الميدانية ومجموعات التركيز والمقابلات الفردية التي شملت نحو 56 موظفًا. ذُهل الباحثون بالطريقة التي تحدث بها الموظفون عن أماكن عملهم، فقد كانت تعليقات إيجابية مثل: هذا المكان مثل منزلي، أشعر أنني أحظى برعاية كبيرة هنا، كلما آتي إلى هنا أشعر أنه مرحب بي، إنه مكان مريح جدًا لتعمل فيه كل يوم. تشير هذه التعليقات بالتأكيد إلى المناخ الإيجابي وبيئة العمل المريحة الموجودة في هذه الشركة، لكنها تلمح أيضًا إلى نقطة مثيرة للاهتمام، وهي أن الموظفين يرون المكتب مكانًا مريحًا للعمل فيه.

لهذه الفكرة أهمية كبيرة وذلك لأن العديد من الأبحاث والدراسات في مختلف مجالات العلوم الاجتماعية –مثل الأنثروبولوجيا والعلوم التنظيمية- أثبتت أن البشر يطورون ارتباطًا بالمكان بكل أبعاده وليس مجرد المساحة التي يشغلها، وفي هذا السياق يمكننا المقارنة بين مصطلحي المنزل والموطن، فالمنزل هو مجرد منشأة مادية، أما الموطن فيحتوي أبعادًا اجتماعية أشمل.

نعلم أن مكتب العمل ليس بيتًا في النهاية، لكن هؤلاء الباحثين وجدوا أن استخدام توجه العودة إلى المكتب لخلق بيئة عمل جذابة سيُكتب له النجاح إذا تمكن أرباب العمل من تحويل مساحة العمل إلى مكان للعمل، أو إلى ما يشبه الموطن وليس المنزل، وفقًا للطرح الذي قدمناه سابقًا، قدم الباحثون ثلاث استراتيجيات تساعد على تحقيق هذا الهدف:

1- توفير مساحة خاصة في مكان العمل:

أظهرت نتيجة البحث أن الموظفين ينظرون إلى المكتب بوصفه بيئة عمل جذابة عندما يلبي احتياجاتهم، وكلما زاد عدد الأهداف التي يمكن للأشخاص تحقيقها في مكان ما، زاد شعورهم بالارتباط به. كما أخبرنا أحد الموظفين: «إذا كنت تريد العمل باستقلالية، أو إذا كنت تريد التعاون مع الآخرين فهناك مساحات لذلك. إذا كنت تريد تناول الغداء مع 50 شخصًا أو إذا كنت تريد تناوله مع شخص واحد فقط، يمكنك القيام بذلك». أي إن مكان العمل يتمتع بمرونة تتلاءم مع حالتك المزاجية حول كيفية إنجاز المهام أو مع ما تتطلبه الحالة أيضًا. قد يساهم ذلك في تحويل المساحات إلى أماكن تلبي العديد من الحاجات البشرية أو المتعلقة بالعمل.

يُظهر البحث أيضًا أهمية تخصيص مساحة عمل خاصة لكل موظف، ببساطة لأن البشر يحبون الامتلاك غريزيًا، فعندما لا يجد الشخص مكانًا لوضع صورة عائلته على مكتبه سيشعر بما يشبه الحرمان. ذكر أحد الموظفين: «أعرف بعض الشركات قد تجعلك تتنقل من مكان إلى آخر دائمًا وهذا يبدو فظيعًا، هنا لدي حجرة صغيرة، وأنا أحب ذلك».

قد يسبب دفع الموظف إلى نقل أغراضه من مكتب إلى آخر كل يوم إزعاجًا كبيرًا له، إضافةً إلى تقاسم المكاتب الذي يتناقض مع الغريزة البشرية حول التعلق بالمكان، ويجعل الموظفين يشعرون كأنهم آلات.

2- إضفاء طابع اجتماعي دافئ على مكان العمل:

من المعلوم أن الناس هم الذين يحولون المساحات إلى أماكن ويعطونها قيمتها، والطريقة المُثلى لتحقيق ذلك، استخدام هذه المساحة ومكوناتها.

كانت الشركة التي درسها الباحثون خير مثال على ذلك، فقد سعت لابتكار الكثير من الأنشطة الاجتماعية بهدف تحويل مكاتبها إلى أماكن اجتماعية وليس فقط أماكن عمل، ما يساهم في صنع بيئة عمل جميلة ومريحة. فقد استضافت وجبات الإفطار والغداء، وأقامت ليالي سينمائية لمشاهدة الأفلام، ودعت عربات الطعام وعربات المثلجات وأقامت حفلات رقص صامتة، وغير ذلك.

اعترف الموظفون أنهم يستمتعون كثيرًا بهذه الفعاليات التي تحفزهم على أداء عملهم بإنتاجية عالية وطاقة كبيرة. إن إطلاق هذه الأنشطة والفعاليات الاجتماعية بجميع أشكالها وأحجامها في المكتب يؤدي إلى خلق ذكريات لدى الناس في المكتب معًا، ما يعني أنهم يبنون مجتمعًا خاصًا بهذا المكان.

لكن هذه الشركة تتبع منهجًا يتسم بالمغالاة في هذا الأسلوب، فقد أعطت حرية كاملة للموظفين لترتيب المكان كما يرغبون، بعضهم أعد ملعبًا صغيرًا للغولف، وآخر رسم لوحة جدارية على جدار مكتب في وسط المبنى. وكان الموظفون يستخدمون المكان متى أرادوا وكيف شاءوا، وكان بعضهم يعقد اجتماعات العمل مشيًا على أجهزة المشي، وكان آخرون يمارسون ألعاب الفيديو بعد الغداء.

أيضًا، يمكن الموظفين استضافة أنشطتهم الخاصة في المكتب، ولا يقتصر الأمر على حفلات استقبال المولود الجديد وما شابه ذلك، بل أيضًا دعوة مجلس إدارة منظمة غير ربحية مثلًا أو دعوة مجموعة من الطلاب لجولة في المكتب. إن إعطاء هذا القدر الكبير من الحرية للموظفين في استخدام مكان العمل يعني أن الناس يطورون شعورًا بالملكية المشتركة للمساحة التي تحولت إلى مكان.

3- الاستفادة من التكنولوجيا في خلق بيئة مجتمعية:

كان للتكنولوجيا دور أساسي في تكوين بيئة العمل بعد حدوث الجائحة، ومع زيادة المرونة لم يعد الموظفون يجلسون في المكتب كثيرًا، حتى في الشركات التي تتبنى سياسات الحضور الشخصي. ومنذ عام 2022، طبقت عدد من الشركات -مثل أمازون وتيسلا وغيرهما- متطلبات صارمة للحضور الشخصي، ما قد يدل على أن التكنولوجيا تعيق توجه العودة إلى المكتب، لكن في الحقيقة قد تكون التكنولوجيا صانعة للمكان.

عملت الشركة محل الدراسة على ضمان استمرار شعور الموظفين بالارتباط بالمكتب عند العمل من المنزل في أثناء الوباء، فقد أنشأ المديرون التنفيذيون مقاطع فيديو ونشرات إخبارية وأرسلوا هدايا الشركة إلى منازل الموظفين، واستضاف بعضهم أحداثًا وألعابًا افتراضية لإبقاء الجميع على اتصال.

حتى بعد الوباء، أنشأت الشركة غرفًا على منصة زووم لصنع شيء يشبه بيئة عمل افتراضية توازي المكتب الواقعي، فأنشأت خلفيات افتراضية تحمل علامتها التجارية وأضافت العلامة التجارية إلى غرف الاجتماعات الافتراضية وأنظمة البرامج الخاصة بها لتذكير الموظفين بالمكتب، حتى أنها وظفت متدربًا لنشر تحديثات حول أحداث الشركة على قنوات التواصل الاجتماعي الخاصة بالشركة. كانت النتيجة أن أعجب الموظفون بهذه التجربة ووصفوها ببيئة عمل افتراضية مريحة مثل البيئة الواقعية.

ملامسة النتائج الإيجابية:

رغم أهمية التجربة المذكورة، للأسف قد لا تنجح مع الجميع. ففي بحثنا كان معظم الموظفين من النوع الذي نسميه المتعلقين بالمكان قبل الجائحة، لكن بعد الجائحة فقد البعض منهم إحساسهم بالارتباط بالمكتب والشعور بالمجتمع الذي اعتادوا أن يشعروا به في المكتب. نقدر أن نحو 30% من القوى العاملة بعد الجائحة في الشركة يشعرون الآن بالانفصال عن ثقافة الشركة والتركيز على الوجود في المكتب للعمل. لكن بالنظر إلى عدد الأشخاص الذين اكتشفوا في أثناء الوباء أنهم يفضلون العمل من المنزل، فإن نسبة 30% هي في الواقع نسبة منخفضة.

أما 70% الباقون من الموظفين في الشركة التي رأيناها فقد ظلوا مرتبطين بمساحات مكاتبهم عام 2025، بعبارة أخرى، يواصل 7 من كل 10 منهم إيجاد مجتمع في المكتب، ويكشف البحث عن مفهوم المجتمع بمزيد من التفصيل: فماذا يعني إيجاد مجتمع؟ وما النتائج التي تترجم إليها هذه العبارة؟

إن الموظفين المرتبطين بالمكان يشعرون بالرضا الجوهري عن العمل في المكتب، يشعرون بأنهم أكثر اندماجًا في النسيج الاجتماعي للشركة، ويشعرون بمزيد من الإنتاجية، ويشعرون بأنهم مرئيون، وأهم من كل ذلك أنهم يستمدون شعورًا بالمعنى، أي وجود غرض لوجودهم.

على هذا، فإن أماكن العمل يجب أن تكون مزيجًا بين المكتب والمنزل، ففي حين يقدر بعض الموظفين العمل من المنزل يقدر آخرون العمل من المكتب. ما نأمل أن يتعلمه أصحاب العمل من بحثنا هو أنه من أجل اتباع نهج مكتبي في العمل، يجب أن تتحول مساحات العمل إلى أماكن عمل أو أماكن مجتمعية.

اقرأ أيضًا:

كيف تؤثر التغيرات السياسية في الشركات والأعمال؟

أي جيل يمكن اعتباره الأنجح في عالم الأعمال؟

ترجمة: محمد ياسر الجزماتي

تدقيق: تمام طعمة

المصدر