نحن محكومون بأصولنا بطريقة أو بأخرى، إذ لا مجال للفصل بين مستقبلنا وجذور عائلاتنا، فوفقًا لدراسة أجراها معهد وايزمان للعلوم، حتى الأوعية الدموية في أجسامنا تتأثر بذلك، فتتحدد وظيفتها المستقبلية تبعًا للسلالات التي تشكلت منها.
تحدثت قائدة فريق الدراسة، الأستاذة كارينا يانيف، عن النتائج التي توصلوا إليها قائلة: «لا بد من بدء تشكل الأوعية الدموية وتطورها تشكلًا صحيحًا لتستطيع أداء الوظائف المرجوة منها أداءً صحيحًا».
توجد اختلافات كبيرة بين توريد الأوعية الدموية للأعضاء المختلفة، مثلًا: استوجبت الوظيفة الترشيحية للكلية وجود ثقوب مجهرية في بطانة الأوعية الكلوية، ما يضمن النفاذية لكثير من الجزيئات، على العكس تمامًا نجد في الدماغ ما يُعرف بالحاجز الدموي الدماغي المكون من بطانة الأوعية الكتيمة التي تمنع مرور الجزيئات الكبيرة، أما في الرئتين تكيفت بنية جدران الأوعية الدموية مع وظيفتها إذ تختص بالتبادل الغازي.
مع أهمية الجهاز الوعائي الدموي الحيوية فإننا لم نتوصل إلى السبب الدقيق وراء الفروق الكبيرة في بنية الأوعية الدموية.
ما زلنا حتى الآن أمام مصدرين لنشأة الأوعية:
الأول الأوعية الدموية الموجودة سابقًا، والثاني الخلية السلفية التي تنضج وتتمايز لتشكل جدران الأوعية الدموية.
اكتشف دكتور رودرا داس، أحد مؤلفي الدراسة الجديدة، يعمل في مختبر يانيف في قسم المناعة والبيولوجيا التجددية، أن الأوعية الدموية قد تنشأ من مصدر لم يُعرف سابقًا وهو الأوعية اللمفاوية، اكتُشف النمط الثالث من الأوعية الدموية في أسماك الزرد المعدلة وراثيًا، إذ وُسِمَت خلاياها بالفلورسنت المشع لتتبعها.
يقول عن دكتور داس: «كسرنا بالدراسة التي أجريناها القاعدة المعروفة بأن الأوعية اللمفاوية قد تنشأ من الأوعية الدموية، إذ أثبتنا أن العملية قد تُعكس ضمن سياق عمليات النمو والتطور الطبيعية».
بتتبع عملية نمو الزعانف على جسم سمكة الزرد الفتية، رأى داس أن الأوعية اللمفاوية أول البنى ظهورًا في أثناء تشكل الزعانف حتى قبل تكون العظام، فيما بعد قد تفقد بعض هذه الأوعية اللمفاوية خصائصها المميزة وتتحول لأوعية دموية.
بالنظر إلى العمليات السابقة نجدها غير معللة وأسبابها غير مفهومة، مثلًا لماذا لم تنشأ الأوعية الدموية المروية للزعانف من وعاء دموي كبير مجاور؟
لتفسير ذلك درس داس وزملاؤه سمكة زرد طافرة لا أوعية لمفاوية لها، فوجدوا أنه بغياب الأوعية اللمفاوية تنشأ الأوعية الدموية في أثناء نمو الزعانف وتطورها بالتفرع من وعاء دموي مجاور، لإثارة الدهشة نمت تلك الزعانف بنحو غير طبيعي فحدثت تشوهات في العظام ونزيف داخلي.
عند المقارنة بين الأسماك الطافرة والطبيعية وجدوا أن كمية الكريات الحمراء الواصلة إلى الزعانف عند الأسماك الطافرة أكبر بكثير من تلك الموجودة عند الأسماك الطبيعية، إذ تحكّم اشتقاق الأوعية الدموية من الأوعية اللمفاوية بكمية الكريات الواصلة إلى الزعانف وقيدها.
تخلق الكمية القليلة من الخلايا الحمراء ظروفًا ملائمةً لنمو العظام المنظم، بينما على العكس تمامًا سبّب فائض الكريات الحمر الواصلة إلى زعانف الأسماك الطافرة خللًا في نمو العظام وأحدث الكثير من التشوهات.
إذن، يمكن القول إن الأوعية الدموية المشتقة من الأوعية اللمفاوية هي الوحيدة التي أثبتت قدرتها على القيام بالوظيفة المنوطة بها بالشكل الأمثل.
أثبتت سمكة الزرد قدرتها العظيمة على تجديد أعضائها التالفة لتتفوق بذلك على الثدييات، لذا شرع داس وزملاؤه بدراسة آلية إعادة إنماء السمكة لزعانفها المشوهة. في أثناء مراقبتهم تجديد السمكة لزعانفها لاحظوا تكرار العمليات ذاتها التي تمت في أثناء نموها أول مرة، أي أن الأوعية اللمفاوية تشكلت أولًا ثم طرأت عليها تحولات لتعطي أوعيةً دموية.
قال دكتور داس: «النتائج التي توصلنا إليها تثبت أن الأوعية الدموية لا تنشأ بالصدفة من خلايا معينة، بل تُختار الأصول بعناية لتخدم حاجات الجسم الوظيفية».
قالت يانيف: «اعتدنا سابقًا أن تصلح نتائج الدراسات المجراة على الأسماك للتطبيق على الثدييات».
لذا يحتمل أن تتماشى نتائج الدراسة مع الفقاريات بما فيها الإنسان.
وأضافت: «ضمن ذات الدراسة اكتشفنا في الكائنات الحية البالغة الصلة بين أصول الخلايا الوعائية الدموية ومنشئها ووظيفتها، تبعًا لذلك فإن خصائص الخلايا وميزاتها تتحدد حسب الخلايا الأبوية التي نشأت منها، إضافةً إلى عوامل أخرى مثل موقع الخلية والإشارات التي تتلقاها من الأنسجة المحيطة بها».
قد تفتح هذه الدراسة المجال أمام مسارات بحثية جديدة في الطب ودراسات التنمية البشرية، مثلًا ربما تتضح وظيفة الأوعية الدموية في المشيمة البشرية إذ تؤمن بيئةً صالحةً لتطور الجنين بتراكيز أكسجينية منخفضة.
كذلك نصل إلى طرق جديدة تساعد على مكافحة الأمراض الشائعة، فقد نقلل خطر الأمراض القلبية إن تمكنا من معرفة ميزات الأوعية الإكليلية المروية للقلب وخصائصها، أو نصل لعلاج السرطان بقطع التروية الدموية عن الخلايا السرطانية، ذلك إن تمكنا من تحديد الآلية التغذوية لهذه الخلايا.
لو حددنا السبب وراء قلة نفاذية الأوعية الدماغية، لتمكنا من إيصال العقاقير الدوائية إلى خلايا المخ بفاعلية. وإن طبقنا نتائج الدراسة في مجال هندسة الأنسجة قد نتمكن من تزويد كل عضو بالوعاء الدموي الأكثر فاعلية بالنسبة له.
يختص مختبر يانيف بدراسة الأوعية اللمفاوية، وبهذه الدراسة الحديثة التي أجراها أُثبِتت أهمية الأوعية اللمفاوية، قالت يانيف :«دائمًا ما يُنظَر للأوعية اللمفاوية على أنها أقل أهمية من الأوعية الدموية، لكن قد نستطيع إثبات عكس ذلك، فقد يكون للأوعية اللمفاوية الأسبقية في العديد من الحالات».
اقرأ أيضًا:
يرث الجنين أمراض القلب والأوعية الدموية عبر المشيمة!
منافع التمارين الصحية على القلب والأوعية الدموية لا حدود لها
ترجمة: لجين بري
تدقيق: باسل حميدي