نميل للاعتقاد بأن ذاكرتنا تعمل بطريقة مشابهة لعملية تخزين الملفات الورقية.
حيث نمر بإحدى التجارب فتتولد ذكرى مرتبطة بالحدث، ثم نقوم بأرشفتها وحفظها ليتم استخدامها لاحقًا.
لكن في الحقيقة الأمر مختلف نوعًا ما، فوفقًا للبحوث الطبية، تعتبر الآليات الأساسية لعملية تخليق الذكريات في أدمغتنا أكثر ديناميكية، وهي أكثر شبهًا بعملية توصيل حاسوبك المحمول بكابل الايثرنت؛ حيث ستحدد قوة الاتصال بالشبكة عملية ترجمة الأحداث في الدماغ وتخزينها كذكريات.
يتكون النسيج العصبي في الدماغ من عدة أنواع من الخلايا، تعتبر الخلايا العصبية أكثرها أهمية.
تتواصل هذه الخلايا من خلال روابط تعرف بالمشابك العصبية (تراكيب وظيفية تقوم بنقل الإشارات العصبية من خلية إلى أخرى عبر مجموعة من المواد الكيميائية تعرف بالنواقل العصبية).
والآن، لنفكر بهذه النواقل العصبية كرسائل الكترونية (ايميل).
فإن كنت مشغولًا في نهار العمل ووصلتك رسالة واحدة أو اثنتين قد تهملها.
لكن في حال وصول المئات من الرسائل ذات المضمون المتطابق في وقت واحد من نفس المصدر، قد يثير الأمر اهتمامك، باعثًا إياك لسؤال المُرسِل عن سبب إرساله لكل تلك الرسائل. ولكن كيف ترتبط هذه الفكرة بعملية تكوين الذكريات؟
لنفكر بنفس الطريقة، فإن الخلايا العصبية تقوم بإنشاء خط تواصل مع الخلايا الأخرى فقط في حال وصول الكثير من المحفزات المتمثلة بالناقل العصبي ذاته في وقت واحد. عندها سوف تتسائل الخلية لماذا تقوم جارتي بإرسال الإشارات المتماثلة بشكل مستمر؟ من الأفضل أن أتكلم معها. وبذلك فإن مدى قوة اتصال الخلايا ببعضها سيلعب دورًا مهمًا في عملية تكوين الذكريات.
ويوضح الدكتور وليام غريفث (William Griffith) المتخصص في علم الاعصاب الخلوي: «إن التفعيل المستمر والمتزايد للمشابك بين الخلايا العصبية يعرف بالتحفيز طويل الأمد، الذي يعتبر أحد أكثر الفعاليات الخلوية أهمية في عملية تشكيل الذاكرة؛ وذلك نظرًا لقدرتها على تغيير قوة ارتباط الخلايا في الدماغ، فإن توفرت قوة الارتباط هذه فسوف تتشكل الذكرى».
وتحدث عملية التحفيز طويل الأمد عندما تتواصل الخلايا العصبية بمعدل متزايد، لكن دون ازدياد في نسبة النواقل العصبية المحفزة. بشكل أوضح الأمر أشبه ببناء علاقة مع الشخص الذي يقوم ببعث الرسائل الالكترونية.
ما أن تبدأ الحوار معه فإنك سوف تصبح في وضع أفضل للتواصل بشكل أسهل مستقبلًا وإنشاء روابط قوية، كإضافته إلى قائمة الأصدقاء المقربين.
ومن المنطلق ذاته، تقوم أدمغتنا بتدعيم المشابك العصبية بين الخلايا ذات التواصل القوي، مما يجعل مقدرتنا على استذكار معلومات معينة تعتمد على توفر هذا الارتباط الطويل الأمد بين المشابك التي تعمل كما ذكرنا سابقًا ككابل الايثرنت، مما يسمح للدماغ برفع وتحميل البيانات ومعالجتها بشكل أسرع، الأمر الذي قد يوضح لماذا بعض الذكريات أكثر قوة وحضورًا.
وكذلك يعتبر فقدان الوصلات العصبية الفعالة أو التحفيز الطويل الأمد وقلة استعمال المشابك العصبية بين خلايا الدماغ مؤثرًا سلبيًا قد يرتبط ببعض الاختلالات المعرفية، كصعوبة التعلم والتذكّر.
مثل انقطاعك عن التواصل مع أحد الأشخاص الأمر الذي سيؤدي إلى اضمحلال العلاقة.
وأضاف الدكتور غريفث موضحًا: «يعتبر الدماغ عضوًا مرنًا، مما يعني أنه قادر وبسهولة على تحوير ذاته أو إعادة تشكيل نفسه.
كذلك فإن المشابك العصبية فيه تشبه العضلات الحركية من ناحية نقصان الفعالية أو ازديادها بالإهمال والاستعمال: فكلما ازداد استعمال هذه المشابك التي تمثل ممر الإشارات بين الخلايا العصبية؛ كلما أصبحت أقوى ومتحفزة بشكل دائم.
ويمكن اعتبار هذا المفهوم كوحدة البناء الأساسية لكيفية عمل الذاكرة».
كما أشار موضحًا إلى أن العلم القائم على مفهوم الذاكرة يعتبر معقدًا بعض الشيء.
فهناك الكثير من الجدل والمزيد من البحوث التي نحتاج لإنجازها لفهم عملية تشكل الذكريات وتخزينها ومن ثم استرجاعها بشكل كامل.
فعندما ننظر إلى شيء ما أو نشمه فإنه سوف يشترك في ذكرى حدث ما، من الممكن أن يتم أرشفته في عدة أماكن من الدماغ، حيث تتداخل الممرات العصبية بأشكال مختلفة لتشكيل ما يشبه الدارة الكهربائية المعقدة لكل نوع مختلف من الذكريات، وقد تدخل الذاكرة في بعض السلوكيات المعينة كالإدمان.
ولكن لماذا قد يحدث ذلك؟ هل هو بسبب تقوية المشابك العصبية المتعلقة بهذا الحدث أم بسبب كبحها؟ لا زلنا لا نعلم حتى الآن.
- إعداد: مصطفى الشوك.
- تدقيق: دانه أبو فرحة.
- تحرير: سهى يازجي.
- المصدر