يبدو أن العيش في عالم خالٍ من الكربون يُعد حلمًا صعب المنال في وقتنا الراهن. ورغم اتخاذ بعض التدابير والإجراءات نحو خفض انبعاثات غاز الكربون فإنها لم تفلح في ذلك، بل ازدادت حدة الآثار الناجمة عن تغير المناخ وقسوتها، ومن هذه الآثار ارتفاع درجة الحرارة وحدوث كوارث طبيعية وعواصف مدمِرة بالإضافة لنقص في الغذاء والمواد الأخرى وغيرها.
ويواجه وصول العالم إلى مرحلة محايدة الكربون أو الحياد الكربوني -وهي عملية تحقيق توازن بين إصدار الكربون واستهلاكه- عقبات عديدة إحداها سياسي، وأخرى متعلقة بالتكاليف الباهظة للمعدات والأدوات التي لا تُصدر غاز الكربون وغيرها.
وضع حجر الأساس لعملية التحول
تُعد اتفاقية باريس للمناخ المُوقعة في أبريل 2016 أول اتفاق عالمي يهدف للحد من انبعاثات الكربون المتصاعدة إلى الغلاف الجوي، وهي ليست قانونًا رسميًا بل هدف مشترك، انبثق عنه تحالف محايدة الكربون Carbon Neutral Coalition الذي يضم مجموعةً من 26 دولةً و15 مدينةً و17 منطقةً و192 شركةً تجهد جميعًا لتخفيف انبعاثات الكربون، وبازدياد عدد الموقعين على الاتفاقية، يزداد الضغط لتحقيق الأهداف الخاصة بها. ونتيجةً لذلك صار شائعًا اتباع الشركات الجديدة قواعد وتقنيات مختلفة للحد من تغير المناخ مع أنها لا تنتمي للتحالف.
تُشير الأرقام الحالية إلى اعتماد أكثر من 50 شركةً عالميةً على الطاقة المتجددة اعتمادًا كاملًا، وأكثر من مئة شركة تستمد نصف طاقتها من المصادر النظيفة أيضًا، لكن ما يزال الطريق طويلًا نحو مستقبل خالٍ من الكربون، إذ تعد الأرقام المذكورة آنفًا ضئيلةً على المستوى العالمي، وتبلغ نسبة الشركات التي تعتمد على الطاقة المتجددة نحو 3.5% فقط من إجمالي استهلاك الشركات العالمي للطاقة.
جهود مشتركة من الجميع
شاعت منذ عدة عقود ظاهرة عرفت باسم الغسل الأخضر greenwashing، وهي فعل خادع تستخدمه العديد من الشركات لإيصال انطباع مضلل أو مبالغ فيه حول مدى احترام منتجاتها للجانب البيئي في محاولة لزيادة المبيعات وتحسين صورة الشركة. ومع ذلك فإن الضغوط الاجتماعية أسهمت في زيادة الضغط على الشركات لاتّباع مسارات جديدة لا تؤدي لانبعاثات كربونية، وتشتري بعض الشركات مثل جوجل شهادات الطاقة المتجددة (RECs; Renewable Energy Credits) أي شراء الكهرباء الخاصة بها من مصادر طاقة متجددة بمثابة دليل على حصولها على الطاقة من مصادر نظيفة ووسيلة لتتبع استهلاك الكربون.
تعمل بعض الشركات مثل أوتوديسك على تعويض الكربون الناجم عن نشاطهم بشراء شهادات الطاقة المتجددة من جهة، والاعتماد عليها مباشرةً من جهة أخرى في المكاتب والمراكز التابعة لها. وتهدف في النهاية إلى الوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2021.
يُعد تحول شركة ما من الاعتماد الكامل على الطاقة غير النظيفة إلى الطاقة المتجددة أمرًا صعبًا ويمر بمراحل عدة، لكن بشراء الطاقة المتجددة يبدو الأمر أكثر يُسرًا ويساعد الشركات على عملية التحول، ويتعدى الشركات أيضًا ليصل إلى الحكومات، إذ سُن قانون في ولاية فيرجينيا الأميركية يفرض بموجبه على محطتي الطاقة الرئيسيتين في الولاية تحويل جميع مصادر الطاقة الخاصة بهم إلى مصادر الطاقة المتجددة، وقال أحد المسؤولين في شركة طاقة محلية في الولاية ذاتها تعقيبًا على الموضوع: «إن وضع خطة للحصول على كهرباء نظيفة بالكامل ولا يسبب إنتاجها انبعاثات كربونية لا يُعد تلبيةً لمطالب سكان الولاية فقط، بل يلفت الانتباه إلى أن الطاقة النظيفة ستكون أرخص بكثير وأقل تكلفةً من الطاقة المستندة إلى الوقود الأحفوري، ما سينعكس على سوق الولاية ويزيد نسبة الوعي لدى القاطنين بداخلها وتساؤلاتهم حول الطاقة النظيفة وكيفية تركيب ألواح الطاقة الشمسية مثلًا والاستفادة، منها خاصةً عند انقطاع الشبكة في أثناء عملية إعادة هيكلة محطات الطاقة».
ويُشير المسؤول نفسه إلى زيادة الوعي بمواضيع الطاقة المتجددة وأسعارها حول العالم رغم وجود معارضة قوية من أنصار الوقود الأحفوري، الذين يعتقدون أنها غير مجدية وباهظة الثمن، لكن تدحض ادعاءاتهم الإحصاءات التي أشارت إلى أنه في العديد من الحالات تكون الطاقة الشمسية أرخص بكثير من الطاقة التي تعتمد على الكربون، وعند شرح جدوى مشروع التحول إلى الطاقة المتجددة من وجهة نظر مالية وليست بيئية أو اجتماعية فقط، فسوف يسهم ذلك في زيادة المستخدمين لها بلا أدنى شك.
يبدو أن فيرجينيا ليست المنطقة الوحيدة التي وضعت خطةً للوصول إلى الحياد الكربوني في عام 2050، فقد أعلن رئيس الوزراء الياباني أن بلاده تسعى نحو التخلص من انبعاثات الكربون بحلول نفس العام، ما يعني تحويل نحو 40% من إنتاج الطاقة الحالي في المحطات إلى مصادر نظيفة للوصول إلى الهدف.
تتجه اليابان نحو الاعتماد بصورة أكبر على الطاقة النووية التي شهدت تطورًا كبيرًا وأصبحت أكثر نظافةً وأمانًا بعد أن شهدت اليابان نفسها عدة حوادث نووية سابقة، وتُشير الحكومة اليابانية إلى أنها تعتمد خطةً لتأمين 20 -22% من إنتاج الكهرباء الإجمالي عبر مصادر الطاقة النووية بحلول عام 2030.
مراقبة التقدم
يصعب في الوقت الحالي تحديد مدى تقدم العالم في مجال الاعتماد على الطاقة المتجددة، وتوفر ناشيونال جيوغرافيك أداةً هامةً للمساعدة في هذا المجال، إذ تُبين كيف تستطيع كل دولة التحول إلى استخدام الطاقة النظيفة استنادًا إلى مصادر مختلفة، مع معلومات عن الفوائد المتوقعة من ذلك التحول؛ ومثال ذلك في الولايات المتحدة التي سيؤدي اعتمادها الكلي على الطاقة المتجددة إلى تقليل التلوث وزيادة الهواء النظيف، ومن ثم تقليل الإنفاق على الرعاية الصحية. ويؤدي أيضًا إلى توفير نحو 8000 دولار أميركي للشخص الواحد أي ما يعادل 12% من متوسط الدخل السنوي للفرد.
تُشير الأرقام إلى أن الولايات المتحدة تحتاج إلى 1.81% من مساحتها فقط لمشاريع الطاقة المتجددة التي توفر لها الحياد الكربوني، وهو رقم صغير يكاد لا يُذكر، ولا يعني أيضًا نشر ألواح الطاقة الشمسية في كل بوصة من هذه المساحة، بل إعادة هيكلة البُنى التحتية الحالية مع التركيز على مصادر الطاقة النظيفة.
تؤكد الأمم المتحدة أن الطريق ما زال طويلًا نحو ذاك الهدف، لكن التحول قد بدأ، وتُشير الصين أكبر مستهلك للفحم في العالم أنها تتبع خطةً للوصول إلى الحياد الكربوني بحلول عام 2060.
اقرأ أيضًا:
الطاقة المتجددة أفضل من الطاقة النووية في خفض انبعاثات الكربون
أرقام صادمة لمعدل انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون تعود للشركات متعددة الجنسيات
ترجمة: بيان علي عيزوقي
تدقيق: حسام التهامي
مراجعة: آية فحماوي