الكون هو أحد أعظم الروايات التي يحاول الإنسان منذ فجر التاريخ أن يقرأها ويفهم ما بين سطورها، فيجد أحداث هذه الرواية بسيطة جدًا في ظاهرها، ولكن مكنونها عميق ومعقد للغاية، إذا ما حاولنا الغوص بداخلها، سنجد أنفسنا أمام مسائل فيزيائية، وكونية، وبيولوجية، وجيولوجية صعبة الفهم، لكننا سنحاول جاهدين من خلال بعض المقالات أن نوضح تلك المسائل في كل علم على حدى.
منذ أن بزغ أول شعاع من النور على سطح الأرض، والإنسان دائمًا لديه متعة فطرية لاكتشاف الأشياء، خاصة وإن كان منها ما هو غريب على فهمه، ولكن بداية التفكير البشري المكتوب يبدأ من عصر الإغريق مرورًا بكل العصور العلمية وكل المحاولات العلمية، على سبيل المثال لا الحصر، كوبرنيكوس، وغاليليو، وبراهي، ونيوتن، وفاراداي، وماكس بلانك، وأينشتاين وغيرهم، حتى عصرنا الحالي.
تخيل معي أنك تقف بأحد الموانئ البحرية، وهناك رجل يقذف شيئًا لرجل آخر، وهناك سفينة تستعد للإبحار، وأيضاً سيارة تتحرك على المرفأ، ماهو في مُخيلتك أنها أحداث بسيطة للغاية، ولكن هذا هو فقط ظاهرها، فحركة الأجسام معقدة للغاية، واستغرقت سنوات عدة، وتطلبت الكثير من المحاولات من العديد من العلماء حتى يتم تفسيرها بالوجه الأكمل.
يرتبط دائمًا بحَدْسنا أن الحركة مرتبطة بالفعل، فلو أن هناك عربتان، يجر إحداهما حصانان، والأخرى يجرها أربعة أحصنة، فسنستنتج أن العربة ذات الأربعة أحصنة ستكون حركتها أسرع من الأخرى ذات حصانين. نفس الأمر إن طبقناه في حياتنا اليومية، فلو أن هناك كتاب على منضدة ونريد أن نحركه، فما علينا سوى دفعه، ولو أن هناك سيارة نريد أن نحركها من مكان لآخر، فما علينا سوى التأثير عليها بقوة، سواء بالدفع اليدوي، أو باستخدام حصان جر، أو آلة بخارية، فكل ما سبق قائم على حَدْسنا الذي يربط بين الحركة والفعل أو القوى المسببة لها.
لكن من خلال العلم، الأمر يأخذ منحىً آخر، فالعلم لا يعتمد على الحَدْس فقط، لأن الاعتماد على الحَدْس فقط يقود لمفاهيم مغلوطة واستنتاجات خاطئة، تقود للطريق الخاطئ، ولعلّ أبرز هذه المفاهيم هي مفاهيم أرسطو عن الحركة، التي سيطرت على أوروبا لعدة قرون، حيث يفسر أرسطو الحركة بقوله: «إن الجسم المتحرك يظل متحركًا، ما دامت القوة المسببة لحركته على اتصال به، ولكن عند الانفصال عن هذه القوى، يتوقف الجسم».
نقطة الانطلاق نحو علم تجريبي قائم على التجربة الحقيقية وليس الحَدْس فقط، تبدأ عند ظهور غاليليو على الساحة العلمية، ولكن قبل الركون لغاليليو ومساهماته في الحركة، دعنا نلقي الضوء على عنصر هام يؤثر في الحركة، فإذا ما كان هناك عربة قام أحد الأشخاص بدفعها، فإن هذه العربة ستتحرك لمسافة ما، ومن ثمّ ستتوقف عن الحركة، ولكن لماذا لم تستمر هذه العربة بالتحرك؟، لأن هناك العديد من المؤثرات الخارجية التي تؤثر على حركتها، كالاحتكاك الناجم عن الهواء المقابل لتلك العربة، أو الاحتكاك بين إطارات السيارة والأرض، كل هذه العوامل كافية لتوقف العربة عن الحركة، وإذا ما حاولنا إزالة تلك المعوقات، فسوف تستمر العربة بالتحرك لفترة طويلة، لكن علميًا لا يمكن إزالة كل المؤثرات الخارجية عن أي تجربة إزالة تامة.
نعود إذاً إلى غاليليو، الذي استطاع أن يستنبط قانونًا يفسر الحركة، بشكل منطقي وتجريبي، والقانون ينصّ على أن الجسم المتحرك بخط مستقيم بسرعة ثابتة، لا يطرأ عليه أي تأثير مالم تؤثر عليه قوى خارجية. ما توارد لذهنك الآن فهو صحيح، هذا القانون استعان به السيد اسحق نيوتن ليصيغ لنا قانون العطالة أو القصور الذاتي.
لعلّك من الأمثلة العديدة السابقة استنبطتَ أن السرعة هي الدليل على معرفة ما إذا كانت هناك قوى خارجية تؤثر على الجسم أم لا، ولكني أخبرك بأن استنباطك هذا في محل الخطأ، إذاً فما هو الدليل؟، الدليل استطاع أن يصل إليه غاليليو، ويعبر عنه نيوتن بشكل دقيق جدًا.
لنعد قليلاً إلى الخلف، ونستعير مفهوم التجربة المثالية، تلك التجربة التي يتم إجراؤها دون أي تدخل من عوامل خارجية، وكنا قد عَلِمنا بأنه لا يمكن عزل العوامل الخارجية المؤثرة على التجربة عزلاً تامًا، ولكن لنفترض تواجدها، وأننا استطعنا فعل هذا العزل التام، وقمنا بدفع سيارة ما على طريق ممهدة، ففي تلك الظروف المثالية ستظل السيارة تتحرك دون أن تتوقف، ولو قمنا بفعل تصادم مع تلك السيارة المتحركة، مرة في نفس اتجاه الحركة، ومرة أخرى في عكس اتجاه الحركة. في الحالة الأولى سنجد أن سرعة السيارة تتزايد، وفي الحالة الثانية نجد أن سرعة السيارة تتباطأ.
القوة هي الجوهر الحقيقي للحركة، من التجربة السابقة نستطيع أن نستنتج أن القوة التي أثرت على السيارة، هي من غيرّت في سرعتها، وذلك وفقاً لاتجاه القوة المؤثرة، سواء في نفس اتجاه الحركة، او عكس اتجاه الحركة، وهذا ما توصل إليه غاليليو.
نيوتن لم يترك الأمر كعادته يمر مرور الكرام، فأدلى بدلوه في هذا الأمر، وأوضح أن العلاقة الكامنة في التجربة هي علاقة بين القوة المؤثرة وبين التغير في السرعة، وليس السرعة نفسها، كما يخبرنا الحَدْس، وهذا هو أساس علم الميكانيك الذي صاغه نيوتن.
يجذبنا هنا مفهوم آخر، وهو القوة، ربما أول ما تبادر إلى ذهنك، أن القوة هي أي مجهود عضلي نقوم ببذله، لكن عزيزي القارئ الأمر أبعد من ذلك، هناك قوة تجاذب بين الأرض والقمر، هناك قوة الرياح التي تثير الأمواج في البحار والمحيطات، وإذا ما استشعرنا أي تغير في السرعة، فيجب علينا أن نعلم أن هناك قوة خارجية تدخلت في الأمر، فعند اسقاطك لحجر من مكان مرتفع، فإن سرعته تتزايد كلما اقترب من الأرض، وذلك لأن قوة الجاذبية تؤثر عليه.
كل ما تحدثنا عنه هو مجرد وصف للحركات المستقيمة، هل تخيلت معي مدى التعقيد؟، بالمرة القادمة سنكون على عُمق أكبر من الظواهر المتعلقة بالحركة.
تحرير: سهى يازجي