يستهل العالم الفلسطيني ابن الناصرة البروفيسور سليم زاروبي كتابه «في البدء – فيزياء، فلسفة وتاريخ علم الكون» بتوضيح الظروف والأسباب التي أوصلته إلى فكرة الشروع بكتابة الكتاب متخذًا أسلوبًا دافئًا يُشعر القارئ بالأمان أمام كتابٍ عن مواضيع الفيزياء والفلسفة والتاريخ التي تُعد صعبة وغريبة عن قسمٍ كبير منا. ذلك الأمان سرعان ما تُستبدل به متعة القراءة والشغف لغرف المزيد من المعرفة من الكتاب الذي نُص بأسلوبٍ مشوّق ولغة أدبية جميلة قلما نصادفهما في الكتب التي تتحدث عن العلوم. أضف إلى ذلك بُحور المعرفة التي ينهل منها المؤلف المثقف، ليروي عطش القارئ المُقدِّر للعلوم الراغب في المعرفة، والباحث عن المثير من المعلومات والتفسيرات الموضوعية العميقة لمختلف القضايا، ليس العلم إلا أحدها. يفعل المؤلف ذلك بنظرة شمولية تتعامل مع الموضوع من مختلف جوانبه.
الكتاب من منشورات دار الفارابي – بيروت، يدور ضمن 426 صفحة، ويحتوي على 13 فصلًا، استعان المؤلف خلال كتابتها بعدد كبير من المراجع العلمية التي تظهر بصفتها مراجع للقراءة الإضافية في نهاية كل فصل. حتى أنه أضاف الملاحق إلى بعض الفصول للقارئ المتخصص الذي قد يهمه التوسع في أحد المواضيع الخاصة بمجال الفيزياء.
تظهر كلمة «فلسفة» بعد كلمة «فيزياء» مباشرةً في تعريف الكتاب على صفحة الغلاف. ولا أعتقد أنه يمكن لأي عالمٍ -مهما وسع إدراكه في مجال تخصصه- أن يخرج للقارئ غير المتخصص، كتابًا في موضوع معقد كالفيزياء، دون استعماله للفلسفة والأدب في عرضه لجُل الأمور. فخلال السرد، يأخذنا المؤلف إلى ما وراء الكواليس، لنتعرف على الخطوات التي تطور بها علم الفلك والتأثيرات التي شجعت تطور الأفكار والنظريات أو عرقلتها. ويحدثنا بأسلوبٍ قريبٍ من قلب القارئ عن الأحداث الشخصية التي أثّرت في مسار العلماء والفلاسفة، وعن الأدوار المفصلية لكهنة الأديان في مختلف العصور. وتراه يتعاطف مع الشخصيات التي يكنّ لها الكثير من التقدير مثل جاليليو وآينشتاين، ويتحدث عن الفلاسفة بمعرفة واسعة، كأنهم كانوا أصحاب الطفولة أو زملاء في مقاعد الدراسة. ثم يعود إلى المقارنة العلمية والموضوعية بين توجهات بعض الشخصيات، كالمقارنة المثيرة بين فرانسيس بيكون ورينيه ديكارت.
هذا الأسلوب في الشرح هو برأيي مميز ومثير قلما نصادفه في قراءتنا عن الفلاسفة والعلماء. ففي خلال استعراضه لمواقف الفلاسفة وإنجازات العلماء يأخذنا المؤلف بعيدًا عن السرد المعلوماتي الجاف، إلى رحلات قصيرة مشوّقة للتعرف على الخلفية التي وُلد داخلها هذا الفيلسوف أو ذلك العالِم، متطرقًا إلى الواقع التاريخي والبيئة العلمية في تلك الآونة، في رحلة تجعلنا نتمسك بالخيوط التي تربط بين الأحداث المختلفة لكي نتعمق في فهمها.
يُعطي الكتاب مثالًا على ما يشغل فلاسفة العلوم وتأثير ذلك في علماء الفيزياء في تفسيرات نظرية الكم (النظرية الفيزيائية التي تُعنى بقوانين الفيزياء التي تحكم الأجسام الصغيرة جدًا، مثل الذرة ونواتها). وأحد التفسيرات الأكثر إثارة هو التفسير المعروف باسم «تفسير العوالم المتعددة»، الذي يفرض أن الكون يختار كل الإمكانيات المعروضة أمامه، ولكن، لكلٍ من هذه الخيارات ينشأ عالم مختلف. هذا التفسير الذي يقترح وجود عوالم متوازية، يُدخلنا في متاهات فيزيائية وفلسفية، إذ يفسر وضعًا معقدًا بواسطة وضعٍ أكثر تعقيدًا، ومع ذلك فهو مفهومٌ مقبولٌ لدى عدد كبير من الفيزيائيين.
وفي هذا السياق، يقيّم المؤلف سؤال الفيلسوف الألماني غوتفريد لايبنتز، «لماذا ينتج شيء من لا شيء؟»، بأنه قد يكون أعمق الأسئلة الفلسفية على الإطلاق. فهو لا يسأل عن طبيعة الوجود وما يحتويه، بل «لماذا أصلًا يوجد الوجود؟» هذا السؤال الذي شغل الفلاسفة والمفكرين على مر العصور هو الطريق التي ستوصلنا إلى المكان الذي نُفسر به منبع كوننا ومنشأه بواسطة نظرية الانفجار الكبير ونظرية الكم.
وبتمسكه بمبادئه التي يعرضها في الكتاب، نرى المؤلف يستعمل قوة الفلسفة للربط بين العلوم الطبيعية والمبادئ الإنسانية، لتجعل من قراءة الكتاب رحلة مليئة بالتشويق. وبرأيي، أجمل مثال على ذلك هو موقفه من محاكمة جاليليو، إذ يذهب أبعد من السؤال عن كون شخص جاليليو مستحقًا المحاكمة والعقاب، إلى السؤال عن حق الكنيسة في محاكمته، فيقول: «لا يحق لأية سلطةٍ كانت أن تتوهم أنها تُقرر للطبيعة كيفية تصرفها، وأي <جنون عظمة> يُوهمها بأنها تستطيع أن تحشر أنفها في ماهية قوانين الطبيعة؟ ذلك مجرد سراب مثير للشفقة».
ومع ذلك، لن ننسى أن الموضوع الأهم الذي يطرحه الكتاب هو الفيزياء. فترى المؤلف يحدثنا عنها وعن دور هذا العلم في فهمنا لمختلف الأمور، خاصةً علم الفلك وبداية الكون والنظريات التي تفسر هذا الموضوع، وعن دور الفيزياء في تقدم الإنسان في مجال التقنيات التي نستعملها في جميع مجالات حياتنا.
يتحدث البروفيسور «سليم زاروبي» عن الفيزياء بشغف من تملك هذا المجال شغاف قلبه. وبصفته عالمًا يدرك صعوبة الموضوع الذي يقدمه للقارئ غير المتخصص، فهو يدأب على تذكيرنا بأهم النقاط التي علينا إدراكها قبل الولوج إلى أي موضوع جديد يتحدث عنه الكتاب. فيسعى إلى توضيح أفكاره مستعينًا بالرسوم البيانية أحيانا، وبالأمثلة التي تبسّط حتى أصعب النظريات أحيانا أخرى. يطرح الموضوع من مختلف جوانبه ويستفيض في تبسيط الشرح حتى يتحقق من مقدرة القارئ على إدراك فكرته وفهمها. ومن أجمل الأمثلة التي ضربها من محيطنا المعتاد هو صورة جوية لكاسر الأمواج في ميناء حيفا، استعملها في تفسير ظاهرة حياد الموجات (موجات الأشعة مثلًا).
قد يشعر القارئ في مرحلةٍ ما، وخصوصًا في فصل «القوى الأربعة» بأن الكتاب قد بدأ يعج بالمصطلحات الغريبة التي من المستحيل ربطها ببعضها وفهمها في قراءة واحدة، فقد يحتاج إلى إعادة قراءة بعض الفقرات لكي يسهل عليه فهمها. ومع ذلك، علينا أن نتذكر أن إحدى غايات الكتاب هي تعريفنا بمجال الفيزياء الواسع. وبالتأكيد، بالإضافة إلى سرد الإنجازات الهائلة التي حققها العلماء في هذا المجال على مدى العصور، فإن المعلومات التي يحتوي عليها هذا الكتاب كافية لاستيعاب كيفية عمل العلم في هذا المجال المُميز، وعملية تكون أفكاره واستحداث نظرياته والبحث من أجل تأكيدها أو دحضها، وطريقة خلق فكرة واحدة أفكارًا أخرى. يمكنني أن أصف شعوري الشخصي بعد انتهائي من قراءة أحد الفصول المعقدة في الكتاب، بنظري من أعلى الجبل إلى طبيعة ساحرة تمتد نحو الأفق، أدرك كنهها وأرى تضاريسها، حتى دون أن يتسنى لي من مكاني ذلك أن أرى بوضوح تطاير أوراق الشجر فوق أنهارها. ربما كان السبب لذلك الإحساس هو تميُّز الطرائق المعتمَدة في مجال الفيزياء بدخولها عميقًا جدًا في الفلسفة، إذ تعتمد على وسائل قياس غير عادية، وتتطلب التفكير العميق، وتربط بين الفيزياء والفلسفة والرياضيات، وتراقب مجالًا غير نهائي من تفاصيل مركبات المادة الأصغر إلى تفاصيل مسافات الكون بأطوالها غير المنتهية.
أحد الفصول المثيرة لاهتمام القارئ المَعني بتوسيع آفاقه عمومًا، والباحث عن إجابات عن أسئلة قد تخطر في خلد كلٍ منا، هو «العملية العلمية وفلسفتها». ويمكن للقارئ أن يُدرك السبب الذي دعا المؤلف إلى تخصيص فصلٍ كامل لهذا الموضوع في بداية الفصل المذكور، إذ يتحدث عن تجربته في نقاشاتٍ مع أشخاصٍ لا يعطون العلم حقه -لسبب بسيط- هو عدم فهمهم لفلسفة العمليات العلمية، ولسببٍ آخر هو ارتكازهم على تفسير الأديان للظواهر التي تُحيط بنا. من أجمل ما يحتوي عليه هذا الفصل هو موقف المؤلف في الفقرة التالية: «تسعى العملية العلمية في أساسها إلى فهم الطبيعة كما نعرفها الآن وتتوقع جوانب جديدة لها لم نكن نعرفها من قبل، لهذا يصبو العلماء دائمًا إلى المعرفة الجديدة. لأنه إذا كانت الإجابة عن التساؤلات العلمية معروفة مسبقًا، فما الهدف إذن من العملية العلمية؟ تصبح ممارسة العلم عندئذٍ عملية ممجوجة فارغة المضمون واهنة أمام التحدي لا تخلق الجديد ولا تتعمق في دراسة المجهول. يتوقّف حينئذٍ العالم عن كونه عالمًا ويصبح عاجزًا كالسفينة التي لن تترك ميناءها خوفًا مما ينتظرها في أعالي البحار أو في الطرف الآخر من المحيط. فهذا النوع من <العلم> لا يُساهم في زيادة المعرفة، إنما هو أداة لتكريس الجهل».
ولكي يُوجّه القارئ الذي اقتنع بوجهة نظره تلك إلى فهم العملية العلمية، يواصل المؤلف الشرح ويضع فيما بعد الملامح الرئيسية للعملية العلمية المشترَكة للكثير من الأبحاث العلمية بالتفصيل، مستعينًا بالأمثلة. ولا ينسى خلال ذلك التطرق إلى البعد الأخلاقي للعلوم، مُفسرًا الفرق المبدئي بين المعرفة العلمية المحايدة في جوهرها، من ناحية قيميّة وأخلاقية، وبين استغلال البشر لتلك المعرفة في تحقيق مآربهم عبر اختراع أسلحة الحروب مثلًا.
وللحقيقة، فإن الأسس الفلسفية للعملية العلمية متداخلة مع عمل المؤلف وطرائق تفكيره، ويظهر ذلك في الأسئلة التي يطرحها بعد أن يكون قد أسهب في الشرح والتفسير لموضوعٍ ما، مؤكدًا أن الأسئلة هي المحرك للتقدم، بينما علينا أخذ الحذر من الأجوبة الجاهزة. نأخذ مثالًا على ذلك في نهاية فصل «دليل الحيران بين الزمان والمكان -نظرية النسبية الخاصة»، حيث يتساءل «هل كان ذلك صدفة أن يلعب الضوء دورًا مميزًا في نظرية النسبية وأيضا في نظرية الكم؟ أو أن هذه النظريات مجرد ظلال، كالظلال التي يراها ساكنو كهف أفلاطون التي كانت انعكاسات جزئية ومشوهة لواقع أعمق بكثير ما زال يختبئ عن أعين بصيرتنا». ويمكننا الملاحظة خلال قراءتنا للكتاب أن المؤلف يبدو أحيانًا مُتحمسا جدا لآرائه، فلا يخفي دعمه لنظرية ما، ومع ذلك لا يلبث أن يطرح عدة آراء لعلماءٍ آخرين، تاركًا للقارئ حرية الاستنتاج، مُبديًا إخلاصه لمفهوم العملية العلمية، الذي يعتمد على الموضوعية.
يُظهر الكتاب كيفية تقدم المسيرة العلمية، لا بابتكار الأفكار وتطويرها فقط، بل برفضها، تصحيحها ومناقشتها من قبل العلماء. ويعطي المؤلف مثالًا على ذلك في الفصل «شيء من عدم- الكون، نظرية الكم وطبيعة الواقع العجيبة» في الفقرة التي تتحدث عن الإحباط الذي أصاب العالم الفيزيائي الكبير ماكس بلانك، حين رفض أقرانه قبول نظريته. تلك النظرية التي ظهر فيما بعد أنها كانت بمثابة الطلقة الأولى لثورة فيزياء الكم الكبيرة!
ولكننا حين نتحدث عن المسيرة العلمية في مجال الفضاء علينا أن نتوقع أن الأمور لن تكون سهلة، فوسائل البحث في هذا المجال معقدة بمعظمها، والأبعاد التي على العلماء قياسها إما أن تكون دقيقة الصغر وإما أن تكون هائلة الكبر، فلا يمكن تحديدها بوسائل القياس التي اعتدناها في مجالات البحث الأخرى. ومثال على ذلك، أن يمنحنا المؤلف أن «نتذوّق» من النقاشات التي ولّدها الواقع الغريب الذي تمليه علينا تفسيرات بعض النظريات ومحاولة تطبيقها على أرض الواقع بين أشخاصٍ هم من أهم العلماء في هذا المجال، حين يسأل آلبرت آينشتاين رفيقه أبراهام بييز سؤالًا افتراضيًا يعكس مدى التعقيد الذي تفرضه علينا نظرية الكم: «أحقًا تصدّق أن القمر موجودٌ فقط حينما تنظر إليه؟». يُجيب العالم نيلز بوهر عن هذا السؤال فيما بعد قائلًا: «مهما حاول آينشتاين، فهو لن يستطيع إثبات وجود القمر، حينما لا ينظر إليه».
يتعامل البروفيسور سليم زاروبي مع العلم بمنتهى الثقة بأن لا بديل عنه لكي ننهض بمجتمعاتنا، فهو الأساس لفهم جميع الأمور التي تتعلق بالأمور الملموسة أو التي يصعب إدراكها، كالكون مثلًا. لا يخص بذلك علم الفيزياء، بل يعده مكملًا لباقي العلوم في جميع المجالات. ويذكر أن أحد الأسباب التي دعته لكتابة الكتاب هو افتقار مكتباتنا العربية عمومًا إلى المواضيع العلمية بالذات. خلال ذلك يصف المنشورات المترجمة بأن وقعها ثقيل وأن الترجمة قد أفقدتها روحها ومعناها. ولن يدرك القارئ أهمية قراءة نص بلغته الأصلية إلا بعدما يتقدم في القراءة، فيجد نفسه مستمتعًا بالوضوح خلال متابعته لما كتب المؤلف بلغة الأم، مستعملًا المصطلحات المعروفة للقارئ العربي كأن يقول مثلًا: «ابتكر البشر منذ فجر التاريخ الأديان والأساطير وحاكوا أجمل القصص والخرافات التي تهدف إلى تفسير الوجود ووضع نظام في العشوائية البادية على الطبيعة والمجتمع». وربما لم تكن للقراءة باللغة الأم أهمية في كتاب علمي، فالمصطلحات العلمية معظمها مترجمة من لغات أخرى. ولكن الكتاب نُصّ بأسلوب أدبي تنفرد اللغة العربية بجمالية تحقيقه. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للقارئ المتخصص تعلم الكثير من المصطلحات العلمية التي يعرفها باللغات الأجنبية مسبقًا، إذ يمنحها الكتاب له باللغة الأم والترجمة الصحيحة.
ولكن «سليم» الذي أعرفه صديقًا شخصيًا وزميل دراسة، لا ينتمي إلى شعبه بلغته فقط، فهو منتمٍ إلى مجتمعه مخلصًا له مدركًا لجميع قضاياه. ولولا ذلك لما كنا سنفهم مدى الحماس الذي يظهر في كتاباته في كل مرة يتحدث فيها عن الحضارة العربية ودورها القديم في إثراء محيط المعلومات الإنسانية، وأسفه على الوضع الذي وصلت إليه مجتمعاتنا العربية اليوم، إذ إن مشاركتنا للعالم في مجالات الحياة لا تكاد تذكر. وهو يلخّص ذلك بالفقرة التي تقول: «طريقنا إلى الأمام ليس بالعويل والبكاء على ما سُرق منا، بل علينا المضي قُدمًا بأقدامٍ راسخة عميقًا في أرضية تاريخنا المجيد، ولكن بقاماتٍ تناطح السحاب، تنظر إلى الأمام بكل ثقة وعنفوان، من غير أن نخاف الانفتاح والتحدي وتحكيم العقل والتسامح والتعلم من الغير. فكما يصح أن نقول: ويلٌ لأمة نسيت ماضيها، كذلك الأمر يصح أن نقول: ويلٌ لأمة لا تفخر إلا بماضيها!».
كان ذلك غيضٌ من فيض ما يقدمه هذا الكتاب المُميّز، الذي قدّمته من منظور قارئة عادية غير متخصصة في تقديم الكتب، ولكنني بكل تأكيد مهتمة بنشر المعرفة والوعي. ومن هذا المنطلق أرى أهمية هذا الكتاب التي لا تُضاهى، وأرى وجوده في كل مكتبة بيتية إضافةً نوعية لا تُقدّر بثمن.