لم يكن قاسم أمين شخصًا ثوريًا امتاز بوجهة نظر متقدمة بخصوص تحرير المرأة فحسب، بل تجلى انفتاحه أيضًا من كلامه الذي يعبر عن رأيه وما يدور في خلده في الدين والثقافة بجرأة ودون مواربة.
وُلِد قاسم أمين لعائلة أرستقراطية في مصر عام 1836 وكان رجلًا سباقًا لعصره.
حاز على شهادة في الحقوق ونال لاحقًا رتبة عسكرية عالية في الجيش قبل أن يغادر مصر ليدرس في فرنسا في كلية مونبلييه.
في فرنسا أصبح أمين على اطلاع واسع بالفكر السياسي والقانوني والمجتمعي الغربي، وقد يكون هذا ما قاده إلى عمله الذي كرَّس حياته من أجله.
إبان عودته إلى مصر تزوج أمين من فتاة تنتمي إلى عائلة ميسورة الحال عام 1885 وعُيِّن قاضيًا.
في عمر 36 نشر قاسم أمين -الذي كان تلميذًا ومترجمًا للشيخ محمد عبده- كتابات جريئة تحت عنوان «تحرير المرأة» التي يُزعَم أن مدرسه قد أسهم بصورة سرية في تألفيها. وبالنظر إلى الحقبة الزمنية التي كانت أوائل القرن العشرين وإلى الثقافة الإسلامية التقليدية في مصر نرى أن كتاب أمين كان مثيرًا للجدل وتلقى وابلًا من النقد من الصحافة، ولكنه نال شعبية بسرعة. وسواء كان مثيرًا للجدل أم لا، فإن تصريحات أمين التي كانت تصب لصالح تحرير المرأة بدأت تتغلغل ببطء في المجتمع المضاد عالي التنظيم الذي تهمين عليه الثقافة الذكورية.
اضطر أمين بعد سنة إلى إعادة إصدار كتابه مرفقًا ببعض التنقيحات الطفيفة وغيَّر عنوانه إلى «المرأة الجديدة» ليكون أقل مدعاة للجدل بسبب الضغط المتزايد الذي ألقاه عليه خصومه المحافظون الذين نظروا إليه ولكتابه بوصفهما تهديدًا للإسلام.
كان أمين يعلم تمامًا أن كتاباته لن تنال إعجاب الجميع وأيقن أن التشكيك بالعادات الثقافية الراسخة والبحث والتقصي عن وضع النساء المسلمات وحياتهن، سيجعلانه يواجه مقاومة شديدة. وفي الحقيقة فإن الفقرة التي يفتتح بها كتيبه تتناول المعركة التي يعلم أنه مقبل عليها؛ فيقول فيها: «سيقول قوم: إنَّ ما أنشره اليومَ بدعة؛ فأقول: نعم، أتيتُ ببدعة، ولكنها ليست في الإسلام، بل في العوائد وطرق المعاملة التي يُحمد طلب الكمال فيها».
وعلى الرغم من المعارضة التي واجهها، فإن كتاباته أظهرته كاتبًا رائدًا وتقدميًا فيما يتعلق بالصراع من أجل تحرير المرأة في العالم الإسلامي.
أحد المفاهيم التي جعلت من قاسم أمين شخصًا مجددًا لزمانه إدراكه أن مفهوم اضطهاد المرأة وظلمها قد حلَّ مكان الطبقية والحالة المالية.
في الواقع يركز أمين جلَّ عمله على وضع نساء الطبقة العليا اللواتي يدَّعي أنهن مقيدات بالقيود العائلية والمجتمعية وأنهن بذلك سجينات في منازلهن وأقرب إلى النساء المستعبدات. يلاحظ أمين أن أزواج هؤلاء النسوة الأقوياء قد عزلوهن عن الحياة العامة وكن ملكات تفكيرهن وإدراكهن وأسيرات نقص التعليم المفروض عليهن.
وبالنظر إلى عائلة أمين نرى أن والدته كانت امرأة مصرية تنتمي إلى الطبقة العليا ووالده كان إداريًا عثمانيًا في كردستان ثم في مصر. ولذلك كان أمين على دراية بالمجتمع الأرستقراطي ومأزق النساء اللواتي يعشن فيه.
يرى أمين أن النسوة اللواتي يُعطَى لهن دور تربية الأطفال الذين يشكلون مستقبل الأمة يجب أن يتلقين تعليمًا لأقصى ما تمكنهن عقولهن ومقدرتهن سواء كان هذا التعليم أكاديميًا أو ضمن إطار الدراسات الإسلامية ليقمن بمهمة تربية الأطفال هذه على أفضل وجه.
ولأنه يعتقد أن النسوة اللواتي يربين بالفعل قادة المستقبل قد بقين أسيرات جهل نسبي، فمن المحتمل أن يمررن قيمًا قديمة وباطلة وأسلوب حياة يتسم بالانغماس في الملذات؛ وبذلك يفسحن المجال للتقاليد الأبوية أن تسود إلى الأبد.
يعتقد أمين أن هذا التغييرات لكي تصبح في متناول النساء ينبغي لبعض المثل العليا التي تقف خلف العزلة والتقييد أن تتغير أيضًا. فقد أشار إلى أن القرآن الكريم لم يذكر ضرورة تغطية الأيدي أو راحات الأيدي ومع ذلك أُجبرَت النسوة في ذلك الوقت على تغطية أيديهن. يرى أمين أيضًا أنه لا يفترض بالنسوة أن يغطين وجوههن أو أيديهن كون تغطيتهن هذه قد تعيق العمل الذي يستطعن إنجازه بطريقة أخرى.
ويجادل أيضًا أن النسوة لا ينبغي أن يُبعدن عن المجتمع وأن المرأة غير المتعلمة ستكون أفضل لتدير منزلًا إذا كانت على الأقل تمتلك قليلًا من العلم والمعرفة الاجتماعية.
وعلى الرغم من مواقف قاسم أمين الجريئة، فإن جهوده قد لاقت قبولًا أكثر من جهود مصلحين آخرين لجملة من الأسباب نذكر بعضًا منها.
بدايةً، حافظ أمين على احترامه للثقافة الأبوية التي عاش في رحابها وقد ناقش فقط بعضًا من عادات الحجاب من دون الدعوة لإصلاح أكبر في أسلوب اللباس واستمر بتشجيع الفكرة القائلة بأن النسوة هن راعيات البيوت اللواتي ينشئن قادة المستقبل الذكور. وقد صرَّح أنهن سيكنَّ أفضل إعداداً إذا تسلحن بالتعليم للقيام بهذه المهمة المنوطة بهن.
تُضاف إلى هذه الأسباب حقيقة أن أمين نفسه كان أرستقراطيًا وقاضي دولة بارز، ما سمح لكتاباته أن يتلقاها العامة بمصداقية أكبر من نتاجات نظرائه.
كان أمين حكيمًا ومتمرسًا في المجتمع الأرستقراطي؛ فقد عرف جمهوره وما ينبغي عليه أن يقول ليجعلهم يصغون إليه وما المدى الذي يستطيع أن يدفع بالإصلاح إليه من دون أن يراه الآخرون غريبًا بل يروه ذا مصداقية.
تابع أمين العمل في مجاله ليصبح من مؤسسي الحركة الوطنية المصرية ومن مؤسسي جامعة القاهرة أيضًا.
على الرغم من وفاته عام 1908 بقي منهجه التقدمي أساسًا لحركة الإصلاح الإسلامية المعاصرة واستمرت تعاليمه تؤدي دورها ملهمةً الحركة لتمضي باتجاه تحرير المرأة داخل العالم الإسلامي.
اقرأ أيضًا:
بوديكا المرأة التي قادت ثورة ضد الإمبراطورية الرومانية
مارغريت تاتشر: المرأة الحديدية
ترجمة: طارق العبد
تدقيق: نور عباس