تابعنا في الجزء الأوّل حياة فرديناند ماجلان الباكرة، والأسباب التي دفعت إسبانيا لإيجاد طريق بحري ثانٍ إلى الشرق، والتمرّد الأول الذي عصف بالبعثة. ونتابع سرد أحداث هذه البعثة، وما آلت إليه الأمور، وما نتج عنها، وهل نجح ماجلان في تحقيق هدفها؟
التمرّد الثاني:
في 31 من مارس عام 1520، بعد مضي ثمانية أشهر على الرحلة وانتهاء موسم الصيف، توقّف ماجلان في خليج سان جوليان في جنوب الأرجنتين. كانت السفن تخزّن اللحوم والأسماك الطازجة ولكن لا بدّ من تقنين المؤن الأخرى لفصل الشتاء وهي خطوة لا تحظى بشعبية لدى الرجال.
لم يعد العديد من أفراد الطاقم يصدّقون قائدهم بوجود مضيق إلى المحيط الهادئ وتآمر القادة الإسبان مرّة أخرى للاستيلاء على الحملة، وهذه المرّة ذهبوا أبعد من ذلك واستولوا على سفن سان أنطونيو وكونسيبسيون وفيكتوريا، أما سانتياغو فبقيت محايدة، في حين بقي ماجلان ينتظر التطوّرات على متن ترينيداد.
في الأيام الأولى من أبريل، بدأ التمرّد وأرسل المتمرّدون خطابًا عبر زورق إلى ماجلان مفاده أنهم يسيطرون على السفن الثلاث وأنهم يعتزمون الإبحار إلى إسبانيا. تظاهر ماجلان بإرسال مجموعة من الرجال لمناقشة الشروط على متن سفينة فيكتوريا وهناك طعنوا قبطانها واستولوا عليها.
إثر ذلك أعلن قبطان سانتياغو موالاته لماجلان واصطّف إلى جانب فيكتوريا وترينداد. مع سد السفن الثلاث الطريق أمام السفينتين اللتين يسيطر عليهما المتمرّدون، أرسل ماجلان رجلًا تحت جنح الظلام ليقطع مرساة سفينة كونيبيسيون التي انحرفت مقتربة من السفن الثلاث فما كان من ترينداد إلا أن أمطرتها بنيران المدافع وهاجمتها فيكتوريا من الجانب الأخر، وبذلك سيطروا عليها واعتقلوا المتمردين ثم استسلمت سفينة سان أنطونيو واسترجع ماجلان سيطرته على الأسطول مجدّدًا.
في أثناء التمرّد قُتِل زعيمه لويس دي ميندوزا، وأمر ماجلان بتمزيق جثته إلى أربعة أجزاء. أسفر عن التحقيق والمحاكمة التي استمرّت لأسبوعين إدانة أربعين رجلًا من الحملة بتهمة الخيانة وحُكِم عليهم بالموت. تعرّض رجلان للتعذيب وقُطِع رأس غاسبار دي كيسادا وخُفّفَت عقوبة البقية إلى الأشغال الشاقّة، إذ كان ماجلان بحاجة أولئك الرجال لتشغيل الأسطول.
كان الهدف الأساسي من هذه المحاكمة هو إعادة سلطة ماجلان وتذكير الرجال بأنه ينبغي لهم على الدوام وفي أي بعثة استكشافية أن يخشوا قبطانهم أكثر من خشيتهم من غضب الطبيعة. أثبَتت هذه الاستراتيجية فاعليتها على الطاقم باستثناء كارتاخينا الذي تآمر لتنظيم تمرّد آخر وهذه المرة مع القس بيدرو سانشيز فما كان من ماجيلان إلا أن ترك الرجلين عند خليج سان جوليان وأبحر بالأسطول.
في تلك الأثناء اكتشف ماجلان أن المؤن التي حمَّلوها في جزر الكناري لا تغطي سوى ثلث احتياجات الطاقم؛ ولذلك في بداية شهر مايو كان أمامه خيار واحد وهو إرسال سفينة سانتياغو لتجد المضيق المفضي إلى المحيط الهادئ، ولكن واجهت السفينة عاصفة كبيرة أدّت إلى تحطّمها وغرقها وعاد الناجون من السفينة الغارقة بصعوبة إلى الأسطول الذي ينتظر الربيع والطقس الملائم. أقام ماجلان في بادئ الأمر علاقات سلمية مع هنود تيهويلش الذين عاشوا في المنطقة وارتدوا أحذية طويلة. أطلق عليهم ماجلان اسم «الأقدام الكبيرة» أو باتاكون وأصبحت المنطقة تُعرَف باسم باتاغونيا.
مضيق ماجلان:
هبّت عواصف جنوب الأطلسي مجبرةً ماجلان على التوقّف لستة أسابيع. ثم انطلق مجدّدًا في أواسط أكتوبر. كان الطقس سيئًا ولكن تغيّرت الصورة مع ظهور أرض مجزّأة تبدو كأنها رأس (لسان بحري). هناك باتجاه الغرب وجد الأسطول مضيقًا. أبحر ماجلان عبر المضيق في بتاغونيا الجنوبية الذي سيحمل اسمه لاحقًا.
كان عبور المضيق صعبًا بدرجة صعوبة العثور عليه؛ إذ واجه الأسطول العديد من العوائق مثل: المد العالي والتيارات القوية والأعشاب البحرية ومناطق متفاوتة العمق وأخرى ضحلة جدًا. بدا أن المنطقة تجذب العواصف خصوصًا أن الريح تجري مسرعة من كلا المحيطين المتقابلين. كان المنظر خلابًا حيث الجبال مغطاة بالثلوج والأنهار الجليدية الضخمة. لكن أكثر ما استحوذ على خيال البحارة تلك النيران الغريبة التي تضيء في الليل التي كانت ضربات البرق وراء حدوثها إلا أن الشك استبد بالطاقم وظنّوا أن السكان الأصليين يكمنون للأسطول لمهاجمته، ولهذا أطلق ماجلان على هذه المنطقة اسم «أرض النار».
بدا لأولئك الرجال أن هذه الأرض سحرية تستوطنها وحوش غريبة مثل: فيلة البحر والنسور الأمريكية العملاقة. ظنّوا حقًا أن هذه المنطقة هي نهاية العالم، ولكن حركة النجوم ظلّت على حالها ما أكدّ لماجلان على أنه في المسار الصحيح الذي سيوصله أخيرًا إلى جزر التوابل. شيء واحد لم يدركه القبطان وهو مدى طول رحلته عبر المحيط الهادئ.
عبور المحيط الهادئ
خلال رحلة الثماني والثلاثين يومًا في عبور المضيق اندلع تمرّد آخر ولكنه كان سلميًا ونتج عنه موافقة ماجلان على عودة سفينة سان أنطونيو إلى الوطن عبر المحيط الأطلسي. وصلت السفينة إلى إشبيلية في 21 من مايو عام 1521، وهناك عمد الطاقم إلى تشويه اسم ماجلان أمام السلطات التي لم تلمْهم على عودتهم باكرًا إلى الوطن، ومع ذلك كانت ضربة مؤلمة وخطيرة للبعثة لأن السفينة احتوت قسمًا كبيرًا من مؤن الأسطول.
أبحر الأسطول المؤلّف من ثلاث سفن في المحيط الهادئ في 28 من نوفمبر عام 1521 والتفّ شمالًا مقابل ساحل تشيلي، وفي 18 من ديسمبر عندما كان الأسطول مقابل مدينة سانتياغو الحالية (عاصمة تشيلي) توجّه غربًا. كانت الريح مواتية اندفعت على إثرها السفن بقوّة وسط دهشة الجميع وقد نجح المستكشفون في امتطاء الريح التجارية.
لم تلح في الأفق أية جزيرة بعد أن فوّتت السفن جزيرتي تاهيتي وبيكيني الأمر الذي صبّ في صالح الأسطول لأن سفن القرن السادس عشر لم تكن قادرة على تخطّي الحياد المرجانية. شعر الطاقم بخطر نقص الطعام والمياه النقية وقد تعفّنتْ المؤن في المخازن بسبب المناخ المداري الحارّ. انتشر الإسقربوط على متن السفن و حصد أرواح 30 رجلًا وعانى آخرون من أهواله. لم يمرض ماجلان أو مسؤولو الطاقم بالمرض لأنهم كانوا يتناولون السفرجل على العشاء الذي يحتوي على فيتامين C الذي يسبب نقصه في الجسم مرض الإسقربوط.
لم تعترض العواصف الأسطول في أثناء عبوره المحيط الهادئ، وكانت أوّل يابسة رأوها جزيرة أسموها سان بابلو في 24 من يناير عام 1521، ووصلوا بعدها إلى ميكرونيزيا في الرابع من فبراير. غضب ماجلان جدًا وكان محبطًا لعدم عثوره على جزر التوابل ورما مخطّطاته ورسوماته في البحر. في السادس من مارس وصل الأسطول إلى جزيرة غوام ضمن مجموعة جزر ماريانا.
استغرق عبور المحيط الهادئ 98 يومًا قطع خلالها الأسطول مسافة 70 ألف ميل. وفي غوام تلقّى الأوروبيون معاملة حسنة من السكان الأصليين الذي رحّبوا بهم وزوّدوهم بالطعام والماء، ولكن ولسوء حظّ ماجلان كانت هذه الفردوس الاستوائية على بعد آلاف الأميال عن هدفه الأصلي. وسرعان ما ساءت العلاقات وتدهورت بين الطرفين إثر وقوعهم في سوء فهم حول تبادل البضائع وما كان يُعَدُّ ملكية فردية آنذاك.
تابع الأسطول الإبحار ووصل إلى جزر الفلبين في السابع من أبريل. ومجدّدًا وجد الأوروبيون الترحيب وحسن الضيافة.
مقتل فرديناند ماجلان
توقّف ماجلان في أثناء عبوره جزر الفلبين في جزيرة كوبي حيث لقي مصرعه وقد شارف على تحقيق النجاح المتمثّل بوصوله إلى جزر التوابل. قُتِل في السابع والعشرين من أبريل؛ إذ تعرّض لإصابة برمح مسموم أولًا ثم ذبَحَه حشد من الغوغاء عندما تدخّل باندفاع وتسرّع في معركة ماكتان التي اندلعت بين زعماء المنطقة المتنافسين.
الوصول إلى جزر التوابل
أبحر الأسطول مجدّدًا وكان الطاقم متأكّدًا من استحالة عودتهم من الطريق ذاته. سُمِي جوان ديل كانو قائدًا جديدًا للبعثة الاستكشافية خلفًا لماجلان، وفي مايو أحرق الأسطول سفينة كونسيبيسيون ؛ إذ نخرت الديدان هيكلها ولم يعد هناك بحارة كفاية ليبحروا بثلاث سفن ولذلك تقلّص الأسطول ليصبح سفينتين فقط، ثم حصل تعديل جديد لتنتقل القيادة إلى جوا لوبيز كارفالو ويصبح القائد العام للحملة.
في يوليو وصل الأسطول إلى بروناي وبسبب تعجّلهم ونفاد صبرهم كانت السفن تسرّب الماء ما اضطّرهم للتوقف مدة 42 يومًا لإجراء الإصلاحات الضرورية. في 27 من سبتمبر أبحروا مجدّدًا وفي الثامن من نوفمبر عام 1521 اعترضتهم رائحة القرفة والقرنفل التي انسابت عبر البحر. أخيرًا وصلوا إلى جزيرة تيودور ضمن مجموعة جزر التوابل البركانية.
كان ماجلان على حقّ بوجود طريق من الغرب إلى الشرق وخلال أيام مُلئَت السفن بالتوابل مقابل لفّات من القماش وأكواب زجاجية بسيطة وأغطية وأجراس وفؤوس ومقصّات جُلبَت من مختلف أنحاء العالم خصيصًا لهذا الغرض.
في 21 من ديسمبر أبحرت سفينة فيكتوريا المحمّلة بالتوابل غربًا بينما كان لا بدّ من إجراء إصلاحات ضرورية لترينداد التي كانت تسرّب مرّة أخرى. أبحرت سفينة فيكتوريا إلى تيمور في إندونيسيا ومنها إلى رأس الرجاء الصالح ثم أبحرت شمال الساحل الأفريقي ورست في جزر الرأس الأخضر في يوليو وهناك تفاجأ الرجال أنهم متأخّرون يومًا عندما نظروا في سجلاتهم الدقيقة. وكان هؤلاء البحارة الذين طافوا حول العالم أوّل من أظهر أن التجوال حول العالم من الشرق إلى الغرب يضيف 24 ساعة إلى رحلة الإنسان.
العودة إلى إسبانيا
وبعد الإبحار لمسافة 10000 ميل عن جزر التوابل ومراوغة السفن البرتغالية التي تحمل أمرًا من ملكها بإلقاء القبض عليهم وصلت فيكتوريا أخيرًا إلى إسبانيا في 6 من سبتمبر عام 1522. نجا 18 رجلاً فقط من بين 60 شخصًا غادروا جزر التوابل وقد قطع البحارة الـ 18 مسافة 60.000 ميل. حقّق الملك الإسباني ومؤيدو رحلة ماجلان أرباحًا ضخمة من شحنة التوابل التي جلبتها سفينة فيكتوريا.
في تلك الأثناء وفي السادس من أبريل انطلقت سفينة ترينداد أخيرًا من جزر التوابل، إلا أن ربانها غونزالو غوميز دي سبينوسا كان يفتقر إلى المهارات الضرورية للإبحار بها؛ فقد خرج عن المسار وكان رجاله يسقطون صرعى بسبب الإسقربوط ما اضطّره للالتفاف والعودة إلى جزر التوابل بعد سبعة أشهر من الإبحار، وهناك استولى عليها الأسطول البرتغالي الذي أُرسِل لملاحقة ماجلان.
في أكتوبر عام 1522 تحطّمت ترينداد -السفينة القائدة لأسطول ماجلان- في عاصفة في أثناء رسوها وضاع معها سجلها إلى الأبد. وتُرِك طاقم السفينة الذين اعتُقلوا ليتعفّنوا في حصن برتغالي في جزيرة تيرونتو وقد استطاع أربعة منهم فقط العودة إلى أوروبا. وبالمحصلة فإن 22 رجلًا من أصل 270 انطلقوا من إسبانيا قبل ثلاث سنوات للبحث عن جزر التوابل قد عادوا إلى الوطن.
الإرث الذي تركه فرديناند ماجلان للعالم
لم يثبت ماجلان أن البشر يستطيعون الالتفاف حول أمريكا الجنوبية والإبحار حول الكوكب عبر طريق بحري غربي فحسب، بل أثبت أيضًا أن التيارات والرياح التجارية في المحيط الهادئ نستطيع استغلالها إذا كانت تندفع قريبة من مكانها الأصلي. وتبيّن أيضًا أن المحيط الهادئ ضخم لدرجة أن العالم أكبر بسبعين ألف ميل مما كان يظنّه واضعو الخرائط.
لم يكن مضيق ماجلان طريقًا سهل العبور ولا سريعًا وقد فشل العديد من البحارة اللاحقين في إيجاد مدخل ملائم في متاهة الجزر عند الحافّة الجنوبية للأمريكتين. وادّعى العديد من المستكشفين أن الممرّ لم يعد موجودًا؛ إذ لا بدّ أن انهيارًا أرضيًا قد سدّ الطريق؛ وبهذا تجلّت الصعوبة في الإبحار عبر هذه الجزر.
إضافةً لما سبق كانت العواصف العنيفة التي اجتمعت عند كيب هورن تحدّيًا كبيرًا. بين عامي 1577 و1580 وجد البحار الإنجليزي فرانسيس دريك طريقه بنفسه عبر المضيق في أثناء طوافه البحري حول الكوكب هازمًا في طريقه لأول مرّة المستعمرات الإسبانية على الساحل الغربي للأمريكتين وناهبًا السفن الإسبانية.
استغلّ تشارلز الخامس رحلة ماجلان ليدعم ادّعاءه بأحقية إسبانيا بجزر التوابل وقد تبع زعمه هذا إرساله أسطولًا مسلّحًا إلى الجزر.
حاولت كل من إسبانيا والبرتغال التفاوض مجدّدًا على تقسيم جديد للعالم وانتهى الأمر بالبرتغال بدفعها كميّة ضخمة من الذهب إلى إسبانيا لتحافظ على سيطرتها على الجزر. وقد تبيّن لاحقًا خطأ ماجلان؛ إذ تقع جزر التوابل في القسم الخاضع لنفوذ البرتغال.
بقي اسم البحار العظيم حيًا في السماء؛ فقد كانت النجوم مهمة جدًا له عندما كان يعبر البحار المجهولة، وقد سُميَت المجرّتان القزمتان اللتان رصدهما في جنوب المحيط الهادئ بسحابتي ماجلان.
اقرأ أيضًا:
فرديناند ماجلان ورحلته حول الأرض الجزء الأول
ما تأثير النجوم على المجرى التاريخي للشعوب؟
ترجمة: طارق العبد
تدقيق: حسين جرود