الجزء الأول: الطبيعة التراكمية للمعرفة
كتب الفيلسوف الألماني إمانويل كانط في القرن الثامن عشر الجملة الشهيرة: «لن يكون أبدًا نيوتن لحزمة من العشب». ما عناه إمانويل كانط هنا أنه لا يتوقع أن يظهر في علم الأحياء شخص يصنع ما صنعه نيوتن، الذي وجد القاعدة القانونية والأسس المنظمة للفيزياء، ذلك لأن كانط كان يعتقد أنه لا توجد قوانين واحدة تنظم ظاهرة الحياة بكل أشكالها.
السبب في ذلك هو أن ظاهرة الحياة من أعقد الظواهر في الطبيعة، وكان من الصعب أن نجد فيها نظامًا يوحّد بوضوح جميع مركباتها. أدى هذا إلى إعاقة تطور علم الأحياء إلى فترة متأخرة جدًا نسبيًا. ذلك، لأنه لم يكن لدى العلماء العاملين في هذا الموضوع نظرية موحدة تفسر ما يرونه بوضوح.
طبعًا، كان كانط مخطئًا. وذلك لأنه في غضون سبعين عامًا من قوله هذا ظهر كتاب داروين «أصل الأنواع». كشف هذا الكتاب عن النظام المنهجي الذي يتحكم في ظاهرة الحياة بكل أشكالها، ويعطي القاعدة القانونية الواضحة والموحِّدة لها. لهذا عندما يتحدث مؤرخو العلوم عن علم الأحياء، يعزون لحظة نشوئه الحقيقية إلى ظهور نظرية داروين.
لم يتحدث داروين في كتابه عن كيفية نشأة الحياة، بل ركز اهتمامه في القوانين التي تحكم تطورها، من أشكالها الأولية إلى أشكال وجودها المعقدة. لكنه خمن في حينه، حسبما ظهر في عدد من الرسائل التي كتبها، أن الحياة نشأت من البيئة الـ «لا حيوية» Abiotec التي كانت تسود الأرض بعد تكونها بقليل في مرحلة «ما قبل الحياة». هذا الاعتقاد هو الاعتقاد السائد اليوم بين العلماء الذين يبحثون في أصل الحياة ونشوئها. السؤال المركزي في هذا العلم هو كيف أدت الشروط السائدة في الأرض المبكرة إلى الانتقال من الكيمياء العضوية المعقدة، التي كانت موجودة في حينه، إلى انبثاق ظاهرة الحياة. بكلمات أخرى، كيف تولدت البيولوجيا من الكيمياء. لكن قبل ذلك سوف نتحدث قليلًا عن طبيعة المعرفة التراكمية.
الطبيعة التراكمية للمعرفة
نتحدث في هذا الجزء من المقال عن صفة عامة للمعرفة العلمية لا تعطى حقها بوجه عام، ألا وهي الطبيعة التراكميّة الخاصة لهذه المعرفة. هذه الطبيعة لها جانبين، الأول هو أن كمية المعرفة نفسها تتراكم، على نحو ثوري أحيانًا، من ناحية بيانات ونظريات. أما الجانب الآخر، المرتبط بالجانب الأول هو أن الأسئلة التي نسألها تتغير مع الوقت، بل نستطيع أن نقول إن جزءًا كبيرًا منها، لم نكن نعرف بوجوده من قبل، يتكشف لنا مع الوقت. لهذا يتعامل العلماء، في أيّة لحظة كانت من الزمن، فقط مع قسم من الأسئلة العلمية التي من الممكن أن تُسأل. لهذا يصبّون جل جهودهم على عدد محدود من التساؤلات التي تتوفر فيها الإدراكات العلمية الكافية والأدوات البحثيّة الفعٌالة التي تمكّنهم من تحقيق تقدم ما في الإجابة عنها، ولو بصورة جزئية. أضف إلى ذلك، ولربما هذا هو الجانب الأعمق من تراكمية المعرفة، غالبًا ما لا يكون واضحًا للعلماء ماهية الأسئلة التي يجب أن تطرح، وإنما تتضح هذه الأسئلة رويدًا رويدًا مع التقدم العلمي.
مثال بارز على هذا هو السؤال العلمي: كيف ظهرت الحياة؟ إذ تجنب أغلب العلماء في التاريخ، ومن ضمنهم داروين ومعاصروه، التفكير في هذا السؤال عمدًا. لأن معظمهم كان يدرك أنه لا يملك المعرفة الأساسية، ولا الأدوات الأولية التي تمكنهم من التعامل معه. هذا على الرغم من أن الكثيرين من العلماء في القرنين الماضيين كانوا يعتقدون أن الحياة هي ظاهرة طبيعية، حتى في نشأتها، كما تشير إليه بوضوح رسائل داروين.
أضف إلى ذلك، لم يكن بالإمكان طرح الكثير من الأسئلة المتعلقة بظهور الحياة قبل القرن العشرين، إذ لم يكن العلماء يعرفون، أو حتى يستطيعون أن يتخيلوا، العلاقة العميقة بين الكيمياء الحيوية ومبنى المجموعات البيولوجية الجزيئي، مثل الـ «دي-أن-إيه» وغيرها، كذلك لم تكن الأسس الفيزيائيّة للكيمياء معروفة في ذلك الوقت، إذ ابتدأت معالمها بالاتضاح فقط بعد اكتشاف نظرية الكم في النصف الأول من القرن العشرين، ما أدى إلى قفزة هائلة في فهمنا لطبيعة الأربطة الكيميائية على نحو عميق.
يعني هذا التحليل أيضًا أننا لا نعرف مسبقًا عن كوننا نستطيع الإجابة عن كل الأسئلة العلمية التي أمامنا، حتى بعد مرور وقت كبير. ولكنه يعني أيضًا أن العلماء الذين يبحثون فيها يعتقدون بوجود فرصة جيدة للإجابة عن الكثير من أسئلتنا. هذا النمط من التقدم العلمي جليّ جدًا أمام من يدرس تاريخ العلم، بالذات منذ الثورة العلمية التي حدثت في القرنين السادس عشر والسابع عشر وحتى الآن.
ينطبق هذا التحليل أيضًا على سؤال نشوء الحياة على الأرض، إذ يوجد احتمال أننا قد لا نستطيع الإجابة عنه أبدًا. لكن ما الظاهر اليوم هو حدوث تقدم كبير في الإجابة عن الكثير من التساؤلات المتعلقة بهذه المسألة الكبيرة.
مقال للبروفيسور د. سليم زاروبي
تدقيق: عون حدّاد
اقر أيضًا:
عالم فلكي يحسب احتمالات نشوء الحياة على الأرض ، وقد لا تكون حياتنا بذلك التميز
البحث في كيفية نشوء الحياة على سطح الأرض قد يساعدنا في إيجاد حياة خارجها